لأسباب يصعب تحديدها، لم يعرف الرسم الفرنسي الثلوج ولا عرف كيف يرسمها. ولعله كان عليه أن ينتظر الاطلاع بما فيه الكفاية على لوحات آتية من بلاد الشمال وصقيعها قبل أن يجد في رسم ذلك البياض اللامتناهي متعة فنية أو مجالاً للتعبير، أو حتى نوعاً من التغيير. ومن هنا قد يكون في مقدورنا أن نعود إلى أواسط القرن الـ19 وتحديداً إلى بعض اللوحات المبكرة للفنان الفرنسي روسو لنجد الثلج ماثلاً، وفي الأقل في واحدة من لوحاته تتسم بشيء من الرومنطيقية قدمها في معرض عام آنذاك من دون أن تلاقي نجاحاً ما. غير أن الوضع تبدل بعد ذلك بنحو ربع قرن وتحديداً في عقد الستينيات من ذلك القرن نفسه، حين اكتشف الفنان غوستاف الذي كان يعتبر واحداً من سادة واقعية ما بعد الرومنطيقية في ذلك الزمن الفرنسي، إمكانات جمة في رسم الثلوج ولكن ليس في لوحة روسو التي نشير إليها، ولا حتى في اللوحات الآتية من الشمال، ولكن في مشاهداته الميدانية خلال فصلين شتائيين من حياته أمضاهما في مسقط رأسه، مدينة أورنان الريفية في مقاطعة فرانش كونتي في الشرق الفرنسي، وهي مقاطعة جبلية اشتهرت ببردها وثلوجها. والحقيقة أنه لم يكن من عادة كوربيه قبل ذلك أن يزور أورنان لفترة طويلة إلا في فصلي الصيف والربيع، لكنه هذه المرة، وخلال عامي 1867 و1868 وجد نفسه لظروف غير واضحة يقيم هناك لفترة طويلة شملت فصلي الخريف والشتاء. حينها أدهشه منظر الثلج ووجد نفسه يرسم لوحات عديدة يشكل عنصر الطبيعة البديع هذا جزءاً كبيراً من مشهدها.
ثلوج ومعان “خفية”
وإذ نقول هذا نجدنا نتوقف عند لوحتين أساسيتين من تلك اللوحات لعلهما الأقوى والأكثر تجديداً بين كل اللوحات التي رسمها كوربيه في أورنان وكانت كثيرة العدد، وتحتل دائماً مكانة أساسية في متنه الفني، بل لعلهما ما فتح الدرب واسعاً أمام إدخال الثلج كعنصر أساس في المشهد الطبيعي الفرنسي، حتى وإن كان الانطباعيون الذين حلوا في الساحة الفنية الفرنسية بعد كوربيه مباشرة وكثيراً ما أبدوا إعجابهم بتعامله الفني مع الطبيعة، لم ينظروا بكثير من الاهتمام إلى “ثلوجه”. أما اللوحتان اللتان نتحدث عنهما هنا فمن المرجح أن كوربيه قد رسمهما في وقت واحد تقريباً، وربما، على رغم كل تأكيداته المعاكسة، بتأثير مباشر من كاتالوغ لأعمال الرسام الهولندي بيتر بروغل الأكبر الذي شكل الثلج موضوعاً في لوحات كثيرة له.
ففي نهاية الأمر، لا شك أن هولندا بلد الثلوج، وكثيراً ما رسم كبار فنانيها مشاهد شتائية ثلجية، تبقى أعمال بروغل من أشهرها وأجملها. ويقيناً أن العارفين بشؤون الفن لن تفوتهم ملاحظة ذلك التأثير ولكنهم سيتنبهون بسرعة إلى كم أن كوربيه عرف في نهاية الأمر كيف يستحوذ على موضوع الثلج ليدمجه في واقعيته التي كانت تقترب أحياناً إلى حدود البؤسوية. ولعل تلك التي تعتبر الأجمل بين اللوحتين اللتين نشير إليهما هنا، وعنوانها “بائسة القرية… أورنان” (يبلغ ارتفاعها نحو 86 سنتيمتراً وعرضها 126 سنتيمتراً وهي غير معروضة في أي متحف حالياً بل هي لمجموعة خاصة)، لعلها الأكثر تعبيراً عن المزج الشيق الذي تعمد كوربيه أن يقيمه بين “اكتشافه” الثلج في الطبيعة كموضوع للرسم وحرصه على تمرير البعد الاجتماعي من خلاله، على عادته هو الذي كان مناضلاً سياسياً مشاكساً ومقرباً من الفوضوي الاشتراكي بيير برودون، ولسوف يشارك بعد تلك المرحلة في “كومونة باريس” في صفوف الثوار.
نضال ومشاكسة؟
إذاً، في تلك اللوحة التي تعرف أيضاً بعنوان آخر هو “المرأة والعنزة”، يصور الفنان امرأة من أهل القرية تحمل فوق ظهرها كمية كبيرة من الأغصان الجافة وتجر خلفها عنزة من الواضح أنها كل ما تملك في الحياة البائسة التي تعيشها، وتسير أمامها طفلتها. والحقيقة أن المرء حين ينظر إلى تلك اللوحة لا يتوقف طويلاً عند موضوعها البؤسوي بل عند التناسق المطلق الذي يقيمه الرسام بين ما ينتمي هنا إلى الطبيعة وما ينتمي إلى الإنسان. ولعل النقاد يبدون محقين حين يلفتون النظر إلى أن اللوحة لا تعبر تماماً عن البرد القارس الذي أراد الفنان نقله إلى مشاهد لوحته، وذلك على رغم كثافة الغيوم السوداء الماثلة في الأفق، كما أنها بالكاد تعبر عن البؤس المطلق الذي يبدو وكأن الرسام أراد نقله. بل إن المرأة تبدو سعيدة بما تملك (كومة الأغصان التي ستؤمن لها الدفء ونار الموقد، والعنزة، ناهيك بما تحمله الابنة باعتداد)، ولربما ينقل هذا الواقع اللوحة من خانة الفن الثوري البؤسوي إلى خانة الفن الذي يعكس مشهداً حياً من الحياة اليومية وحسب. ولنضف إلى هذا نصوع بياض الثلج تحت سطوة شمس تهيمن على المشهد.
دهشة الفنان
ولا شك أن هذه العناصر في تناقضها مع رغبة الفنان التعبيرية تجعل المشهد وكأنه يزين بشكل أخاذ واحدة من حكايات أعياد الميلاد. وهذا ما يقرب هذه اللوحة أكثر، من لوحات شتائية مماثلة لبروغل كانت تستخدم في مناخها الريفي الهولندي لتزيين البيوت والأجندات. ومع ذلك لم يفت كوربيه أن يتحدث عن هذه اللوحة بوصفها تعبر “عن موضوع دائماً ما كان يشغلني وهو موضوع الفقر وحياة الفقراء”! ومهما يكن من أمر هنا، من المؤكد أن الأقرب إلى الصحة مما يقوله كوربيه هو أن هذه اللوحة إنما هي أقرب ما تكون إلى اللوحة الثانية التي رسمها كوربيه في الوقت نفسه تقريباً وهي لوحته المعنونة “مرافقو الكلاب… أورنان” ويبلغ ارتفاعها أكثر قليلاً من متر واحد وعرضها 122 سنتيمتراً وهي معلقة منذ عام 1970 في المتحف الوطني للفن الحديث في باريس. وتبدو هذه اللوحة قريبة من اللوحة السابقة حتى في الاتجاه الذي تسلكه الشخصيتان المرسومتان فيها، وهما كما واضح من اللوحة وعنوانها، من المتخصصين في تدريب كلاب الصيد. وهنا أيضاً تبدو الشمس ساطعة إلى حد أن الظلال تبدو أكثر قوة بكثير مما هي في اللوحة الأخرى. ولعل كوربيه يبدو هنا مدهوشاً أمام تلك الظلال، إذ في مراسلة له مع صديقه الناقد كاستانياري (جول كاستانياري) يحدثه فيها عن هاتين اللوحتين معاً، يعبر عن شغفه بذلك اللون الأزرق الذي يكلل الظلال. غير أن ما يبدو أكثر قوة في هذه اللوحة، ومن الغريب أن كوربيه لا يشير إليه في تلك المراسلة التي يذكر فيها لصديقه الناقد أن “مشاهد الصيد هنا قد أوحت إليَّ بإنجاز لوحات كثيرة ستستمتع كثيراً بمشاهدتها حين تراها قريباً”، إنما هو ذلك العمق في المشهد الذي يعكس فساحة المكان مع أنه يبدو مليئاً على رغم “صحراويته المطلقة” بل حتى على رغم رتابته وأحاديته.
ومن الواضح أن الطريقة التي اشتغل بها الرسام على توزيع درجات اللون الأبيض مندمجة في آثار الأقدام ناهيك بالغيوم التي تغطي المساحة كلها. كل هذا يأتي هنا كنوع من تلوين داخل التلوين معطياً للأشخاص الدخيلين على عزلة الطبيعة وبهائها، إضافة إلى حيوانيهما ومجموع الظلال، بعد حركة يخرق السكون الأبدي للمكان ولكن من دون أن يبدو دخيلاً بأية حال من الأحوال.
بعيداً من الندم
ولعل في مقدورنا أن نشير هنا، مرة أخرى، إلى ما يذكره الرسام نفسه من أن تينك اللوحتين ليستا سوى جزء من مجموعة من أعمال أتاح رسمها وقت أمضاه في تلك المنطقة من العالم وتحديداً في فصول باردة لا تشجع الناس على الانتشار في الطبيعة، وكانتا جزءاً من سلسلة أعمال حققها الفنان بعيداً، على رغم كل ما سيقوله لاحقاً، عن حياته المشاكسة واهتماماته الاجتماعية التي لم يفلح في حشرها في اللوحتين، وهو الذي عبر فيهما عن قيم جمالية مطلقة في نوع من استراحة المحارب لئن كان هو قد ندم عليها فإن هواة فنه لم يندموا أبداً.