لا تكفي المهارات الكتابية والسردية لوضع رواية تتجاوز بصفاتها،القصة أو الحكاية. لا بد أيضاً من معرفة واسعة في الموضوعات المقارَبة فيها، وموهبة في ضخّ هذه المعرفة واستثمارها داخلها. مطلبان لا يحققهما مع الأسف سوى عدد محدود من كتّاب الروايات في عالمنا العربي اليوم، والكاتبة المغربية الفرنكوفونية ياسمين شامي هي بالتأكيد ضمنه، كما تشهد على ذلك رواياتها الخمس، وآخرها “سيرك كازبلانكا”، التي صدرت حديثاً عن دار “أكت سود” الباريسية، وتشكّل عملاً أدبياً مهماً، على رغم عدد صفحاتها القليل نسبياً.
لا تثبت شامي في الرواية فقط موهبة فريدة في كتابتها، وفي تشييد صرحها، وسرد قصتها، بل أيضاً معرفة مدهشة في موضوعاتها وكيفية معالجتها روائياً. معرفة مصدرها من دون شك دراساتها العليا (فلسفة، علوم اجتماعية، أنثروبولوجيا) في أرقى جامعات باريس، وخصوصاً الأبحاث العلمية التي قادتها بعد ذلك في سيرورة تطور المجتمع المغربي على مستوى التمدّن الحضري، والتربية، ومكانة المرأة، والجنس، ضمن مساءلة ثابتة للعلاقة بين الأعراف والواقع.
في روايتها الجديدة، تحضر جميع هذه الموضوعات على مستويات مختلفة، وبطريقة لا تثقل إطلاقاً نثرها الأخّاذ أو قصتها. رواية شخصيتها الرئيسة كازابلانكا، أو الدار البيضاء، التي هي “أكثر من مدينة، بوتقة تنبت فيها وتتخمّر كل المدن التي تتضمنها، تولّدها أو تخفيها، ضمن حركة مدّ وجزر لا تقاوَم، كحركة المحيط الذي لا يحدّها”، وفقاً لوصف الكاتبة. “مدينة ــ عالم” تسعى شامي إلى خطّ بورتريه لها، بحسناتها وسيّئاتها، عبر مقابلتها بين منطقتين فيها: حيّ الصفيح “كريان البحريين”، الذي يقع في أعلى الجرف، بالقرب من منارة “العنق” الشهيرة، وتقطنه عائلات شديدة الفقر، تكافح كل يوم ضد بؤسها، وحيّ “أنفا” في أعالي المدينة حيث تتوزع المساكن الفخمة التي تقطنها عائلات من مجتمع آخر كلياً، كما لو أنه من مدينة أخرى.
فعل العودة
ولإنجاز هذه المقابلة، تتخيّل الروائية زوجين مغربيين شابين يقرران، بعد سنوات من الدراسة في باريس، العودة إلى المغرب مع طفلهما، لسببين رئيسين: استنتاجهما انحراف فرنسا عن مثالي التسامح والأخوة اللذين لطالما ميّزا مجتمعها المتعدد، وحلمهما في تحقيق شيء ما في وطنهما انطلاقاً مما اكتسباه من معارف في الغربة. ولكن فور عودتهما، يجدان نفسيهما في مواجهة اختلافات ومشاكل غير متوقعة. وبين أحلامهما وطموحاتهما، من جهة، والواقع الذي يختبرانه، من جهة أخرى، لا تلبث أوهامهما أن تتبدد أمام التناقضات الاجتماعية والثقافية التي تنفتح كهوةّ بينهما، وسرعان ما تتغلغل داخل علاقتهما الحميمة، من طريق الضوابط التقليدية التي تتحكم بالعلاقة بين الرجل والمرأة داخل المجتمع المغربي، والعربي عموماً.
وفعلاً، لأن كليهما من الدار البيضاء، شعرت ميّ المؤرّخة وشريف المهندس بتقارب حميم بينهما فور التقائهما في باريس، أثناء دراستهما. لكن ما فاتهما آنذاك هو أن هذا التقارب الذي حصل على قاعدة انتمائهما المشترك، وإحباطاتهما وتطلعاتهما كشابين شرقيين يعيشان في الغرب، يبقى عاجزاً عن محو كل ما يمكن أن يفرّقهما في مدينتهما الأم. فبينما نشأت ميّ في حيّ “أنفا” داخل محيط مترف، نشأ شريف في حيّ شعبي من المدينة في كنف عائلة متواضعة. ولأنه كان يرغب في انتزاع قبول عائلة زوجته ومحيطها به، يتملكه هاجس النجاح المهني فور عودتهما إلى الدار البيضاء. وحين يُكلَّف بمشروع تحديث مدني في المدينة، يجد نفسه في مواجهة مع ميّ، نظراً إلى تحفّظاتها تجاه الرهانات المالية والاجتماعية لهذا المشروع.
المهمة التي يقبل شريف بالاضطلاع بها، ضمن هذا المشروع، هي إعادة تأهيل حيّ “كريان البحريين”. ولإنجازها، يتوجب عليه نقل سكان هذا الحي إلى منطقة خارج المدينة. ولأنه كان يحلم دائماً في ممارسة هندسة معمارية ذات طابع إنساني ــ اجتماعي، يخطّط لبناء مساكن إيكولوجية لهؤلاء السكان تتوافر فيها كل وسائل الراحة، ومدّ المنطقة المختارة لاستقبالهم بالبنية التحتية الضرورية لحياة كريمة (طرقات، مساحات خضراء، مدارس…)، آملاً أيضاً في ربط هذه المنطقة النائية بخطوط حافلات النقل المشترك.
مدينة البؤس
مخطّط حميد في ظاهره، كان يمكن أن يحظى برضا ميّ لولا أنها لا تملك رؤية أخرى لهذا المشروع، ولمَن يقف خلفه، ولولا أنها لا ترى فيه، فوق كل شيء، سلب رجال ونساء بائسين الشيء الوحيد الذي يملكونه في هذه المدينة، مساكن من صفيح تطل على البحر، ورميهم في مكان معزول، بعيداً عن وسط المدينة، مصدر رزقهم. جورٌ من شأنه أن يقلب حياتهم، الهشة أصلاً، رأساً على عقب. ولذلك، لا تلبث ميّ أن تذهب لمقابلتهم، فتصغي إلى قصصهم وتنسج روابط حميمة معهم، ثم تنطلق في وضع كتاب حولهم، بموازاة كتابتها يوميات حبلها في دفاتر تتوجّه فيها إلى ابنتها التي تتكوّن داخل أحشائها.
من خلال هذين الزوجين، اللذين يجدان نفسيهما على خط احتكاك تناقضات متعددة، تتجلى الدار البيضاء كمدينة التباينات بامتياز. فمن أحيائها الفخمة ذات المساكن الفاخرة، إلى أحيائها الفقيرة المحكومة بالتواري منها بفعل مشاريع مدنية، يخفي أصحابها غاياتهم المشبوهة خلف مبررات ضرورة تجميل المدينة وتحديثها. ومن طبقة أثريائها الجدد، المستعدين لجميع التسويات لإرضاء جشعهم وزيادة ثرواتهم، إلى ناسها الأكثر هشاشة، ولكن أيضاً الأكثر أخوّة، يتعرّى تحت أنظارنا ذلك “المزيج من التيارات القوية التي تحرّك الأرضية الاجتماعية والجغرافية لهذه المدينة المتقلِّبة التي تتحدى كل الخانات والتعريفات المحدَّدة مسبقاً”.
وبتضمين حبكتها الغنية قصة جنين يتكوّن يوماً بعد يوم في بطن أمه، من طريق الدفاتر التي تكتبها ميّ وتحاور فيها ابنتها أثناء حبلها بها، واعدةً إياها بعالمٍ أفضل، أكثر عدلاً ومساواة، وبكفاحها لإرسائه، تتحفنا شامي أيضاً بتأملات بصيرة وصائبة في بنيات الهويتين، الذكورية والأنثوية في المغرب، مسائلة في طريقها توازن القوى القائم بينهما. وعن طريق شخصيات ثانوية تشكّل خير أمثلة على العديد من الحالات الفردية الواقعية، تقارب في السياق نفسه موضوعات عديدة راهنة ومؤلمة، كمسألة عدم اعتراف دوائر النفوس في وطنها بالأطفال المولودين خارج إطار الزواج، الأمر الذي يحرمهم من أوراق الهوية، وبالنتيجة، من أي حق في الوجود داخل مجتمعهم.
وبالتالي، لا تأسرنا “سيرك كازابلانكا” بثراء قصّتها فحسب، بل أيضاً ببُعدها السوسيولوجي الذي يعرّي محرّكات المجتمع المغربي وما يتحكّم داخله بالعلاقات بين الرجل والمرأة، بين الأب وابنه أو ابنته، بين الأم وأولادها، وبين الفرد والسلطة. تأسرنا أيضاً بصوت صاحبتها الفريد، الذي يستمد سطوته من إنسانيته ورقّته. صوت يرتقي بتأملاتها ويعزز وقعها على المصغي إليه.
لكن مصدر فتنة هذه الرواية الأول يبقى، في نظرنا، تشكيلها نشيد حبّ مؤثّر لأولئك الفقراء الذين يعيشون في ظروف لا تطاق، ويقعون غالباً ضحية الرهانات والصفقات، ومع ذلك، يشكّلون الطائفة البشرية الأكثر حياةً وكرماً. أشخاص غير مرئيين تصوّر شامي لنا من أقرب مسافة هشاشتهم، عدم استقرارهم المزمن، ولكن أيضاً قوتهم وتعاضدهم، راسمةً من خلالهم لوحة واقعية لمدينة تخضع الحياة فيها لإكراهات عائلية واجتماعية وسياسية جمّة، وفي الوقت نفسه، تضجّ بالآمال والتطلعات.