(مقتطف من كتاب الكون كله دفعة واحدة، مختارات شعرية من أعمال سليم بركات، قام باختيارها الشاعر بنفسه وترجمتها هدى فخرالدين، الصادر عن دار سيغول بوكس)
بعد سنوات من الكتابة عنه دون تواصل مباشر، جاءت أولى خطوات تعاوني مع سليم بركات من خلال الكون كله دفعة واحدة، وهو ترجمة لاختيارات من قصائده المتأخرة، تلاها حوار طويل امتد على مدى عدة أشهر بين خريف 2022 وصيف 2023.
انتظرت بقلق أن يجيب على اتصالي الأول. وبينما كان الهاتف يرن، كنت أجهز نفسي، خائفة من أن أقع في خطأ نحوي. ولسبب ما، تخيّلت أن الحديث سيكون بالفصحى، الفصحى الصاخبة التي تميّز بها بركات، لكنها لم تكن كذلك. جاءني صوته ناعماً وبعيداً، بل وأجرؤ أن أقول خجولاً. ظل يسألني بإسهاب عن عائلتي، عن ابنتي، عن الأطباق التي أحب طهوها. استمتع بوصف عالمه الذي أصبح منزلياً بالكامل: وصف وصفاته، زياراته إلى السوق، طقوس العائلة. وعندما طرحت عليه أسئلة متعالية من نوع: ما الهدف الذي ترى أن مشروعك الأدبي يسعى إليه؟ كيف تعرّف قصيدة النثر العربية؟ ما علاقتك بالتقليد الشعري العربي؟ وما موقفك من الوزن؟… كان يتردد، يراوغ، ويحوّل الموضوع إلى ما هو شخصي ووديّ.
ومع ذلك، تلقيت لاحقاً إجاباته عن تلك الأسئلة وغيرها مكتوبة. وعلى الرغم من أننا تحدثنا هاتفياً مرات قليلة، إلا أنه فضّل الكتابة بخط يده، وكانت زوجته، سيندي، والتي كانت دليلنا في هذا المشروع، تقوم بمسح الأوراق ضوئياً وترسلها إلي عبر البريد الإلكتروني. كانت عملية معقدة متعددة الخطوات، لكنها بدت مناسبة تماماً، إذ من غير المتوقع أن يجعل سليم بركات الأمور سهلة! كانت الصفحات مكتوبة حتى حوافها، كما لو كانت مطرزة بخط صغير جميل ودقيق. الكلمات المفتاحية كانت دائماً مشكولة، والجمل التي اعتبرها مهمة كانت تحتها خطوط. وكثيراً ما كان يوقف إجاباته ليكتب لي ملاحظات جانبية في الهوامش مثل: “هدى، أجبت على أسئلتك والآن سأذهب لأشوي في الحديقة” أو “بالمناسبة… اليوم عيد ميلاد سيندي!”
سليم بركات الكاتب، مهيب ومعقد بل وأحياناً عنيف. رغباته لا حدود لها، ومشاريعه ضخمة؛ لا شيء أقل من “القبض على الكون كله دفعة واحدة!” أما سليم بركات الإنسان، فهو هادئ ومتواضع. نجح بطريقة ما في الحفاظ على الطفل بداخله، رغم الهزائم، المنافي المتكررة، وفقدان الأمل التام في العالم خارج سور حديقته.
انتهت مراسلاتنا في أغسطس 2023، قبل أن تبدأ أهوال غزة. وما زلت أتلقى منه ومن سيندي رسائل بين الحين والآخر، يسألان عني وعن عائلتي، خصوصاً عندما تصبح الأخبار أكثر سوءاً منذ أكتوبر 2023.
وعلى الرغم من أن فلسطين لم تُذكر في الحوار المنشور في الكتاب، إلا أن أعمال وحياة سليم بركات تقول الكثير عن اللجوء، المنفى، التشرد، وعذابات الأوطان المفقودة. لقد اختار مغادرة بيروت عام 1982 إلى قبرص بحراً، برفقة الفلسطينيين الذين اضطروا إلى ذلك عقب الغزو الإسرائيلي الوحشي لبيروت ومجازر صبرا وشاتيلا. وقد تناول افتتاحية روايته أرواح هندسية (1987) هذا الحدث.
لعدة سنوات بعد ذلك، أثناء وجوده في قبرص، كان بركات يشغل منصب رئيس تحرير مجلة “الكرمل”، المجلة الأدبية الفلسطينية الأهم، والتي أسسها وأدارها محمود درويش. كما كان يشرف على دار “بيسان” للنشر الفلسطينية المرتبطة بـ”الكرمل”.
لغة سليم بركات نفسها مقاومة للمحو، وإصرار على الحضور والفاعلية، وعلى وجود وطن، حتى لو اقتصر حضوره حتى الآن على لغة متحدّية تحوّل الواقع وراءها. فكما قال صديقه محمود درويش ذات مرة، الفلسطيني، مثل الكردي، “ليس له سوى الريح”.
يُعرف سليم بركات بشخصيته الاستفزازية وعلاقته التصادمية مع اللغة العربية. يُصرّ دائمًا على تقديم نفسه ككردي يكتب بالعربية. وهو صريح في وصف علاقته المتجاوزة مع اللغة، علاقة تتسم بكونه في آنٍ معًا من الداخل والخارج. فالعربية ليست لغته الأم، لكنه يقتحمها ويستولي عليها ويُعلن ملكيته لها. وقد أيّد شعراء وكتّاب عرب هذا الادعاء. ففي الإشادات التي ظهرت على غلاف الجزء الثاني من أعماله الكاملة الديوان، الصادر عام 2017، نجد أصواتًا من كبار الشعراء والكتّاب العرب. محمود درويش يقول: «منذ أن اقتحم المشهد الشعري العربي، بشّر سليم بركات بنوع مختلف من الشعر». ونزار قباني يخاطبه برجاء قائلاً: «مولانا! ماذا أبقيت لنا؟ أطلق سراح الشعر العربي من قبضتك». أما سعدي يوسف فلم يتردد في وصفه بأنه «أعظم كردي منذ صلاح الدين». لكن أدونيس كان الأكثر اختصارًا حين قال: «هذا الشاعر الكردي يحمل اللغة العربية في جيبه».
على مدار مسيرته، نادرًا ما تصرف سليم بركات كما يفعل شعراء جيله. بل على العكس، فهو شخص شديد الخصوصية، قلّما يظهر في الإعلام، سواء عن قصد أو من دون قصد، حتى أصبح معروفًا بأنه ليس فقط شاعرًا «صعبًا»، بل أيضًا «إنسانًا صعبًا». انعزاله وتردده في الانخراط في الأوساط الأدبية سبق حتى انتقاله إلى السويد. فحتى في بيروت، يروي الأصدقاء والمعارف حكايات عن سلوكياته الغريبة والمتمردة في كثير من الأحيان. يتذكر محمود درويش في ذاكرة للنسيان حادثة طريفة:
> «لقد اجتاح الحياة الثقافية في بيروت بين ليلة وضحاها. يدافع عن كتاباته بشراسة، بقبضتيه، لأنه لا يؤمن بالحوار بين المثقفين، ويراه مجرد لغو. يحمل مسدسه وعضلاته المستعرضة، ويدخل إلى المقهى المناسب، ينتظر النقاد الصغار الذين يكتبون في الصفحات الثقافية للجرائد اليومية، ولا يوارب في مواجهة ما كتبوه ضده. مرة قلت له: كان فلاديمير ماياكوفسكي يعامل نقّاده بالطريقة نفسها في شارع غوركي. فأجابني: هذه هي الطريقة الوحيدة الصحيحة لنقد النقد!»
يبلغ سليم بركات مرتبة «الشعري» في شعره ونثره معًا من خلال تعمّد إخفاء المعنى خلف ستار اللغة؛ لغة مشغولة عمدًا، متشابكة ومكثفة إلى حد يصعب التعرف عليها بسهولة. نحن دائمًا على حافة الفهم، نشعر بوعينا المفرط تجاه أنفسنا، ليس كقراء ومتحدثين باللغة العربية، بل كمستكشفين لما فاتنا منها حتى الآن.