ملخص
يتبنى كير ستارمر سياسات تقشفية وتقليصاً لدور الدولة، مما يجعله أقرب إلى نهج دونالد ترمب، بدءاً من خفض المساعدات الخارجية وتسريح الموظفين، وصولاً إلى سياسات الهجرة والبيئة. رغم الاختلافات الأيديولوجية، يبدو أن حكومته تنجذب إلى الشعبوية واتجاهات اليمين.
إن السعي لتقليص حجم جهاز الدولة الإداري ونطاقه، وإلغاء الوكالات المستقلة، وإنهاء المساعدات الخارجية تقريباً- وخفض الضمان الاجتماعي لتعزيز الإنفاق الدفاع كل ذلك يبدو شبيهاً بسياسات ترمب. لكن، استناداً إلى الأدلة الحديثة، يبدو أنه يشبه أيضاً سياسات ستارمر.
هل من الممكن أن يكون رئيس الوزراء ووزيرة خزانته قد نظروا عبر الأطلسي واستلهموا مما يشاهدونه من دونالد ترامب وإيلون ماسك؟ وهل، خلافاً لما يبدو أنه غريزتهم الاجتماعية الديمقراطية الطبيعية، يتأثرون (بشكل واعٍ أو غير واعٍ) بالروح العامة السائدة القادمة من أميركا؟
هل أصبحت إدارة ستارمر الآن تتّبع نسخة مخففة من سياسات ترمب؟ وهل ترقى مراجعة رايتشل ريفز “سطراً بسطر” للإنفاق العام إلى محاولة خفية لتحويل وزارة الخزانة إلى “دوج” Doge بريطانية [نسبة إلى وزارة الكفاءة الحكومية التابعة لإيلون ماسك في الولايات المتحدة]؟
في كثير من الجوانب، وعلى رغم أن ذلك قد يكون غير مريح لبعض الأفراد التقدميين، فإن الإجابة على ذلك هي بوضوح “نعم”. ما يدفع ستارمر وريفز يبدو مشابهاً جداً لما يحفز ترمب وماسك أيضاً- وهو شعور بأن البلاد ستواجه الإفلاس ما لم يتم تقليص حجم الدولة، والاقتراض، والضرائب بأسرع ما يمكن.
ومن هنا يأتي نهج المسار المزدوج- استهداف المؤسسات نفسها إضافة إلى فرض التقشف على موازنات الإدارات والوكالات.
ليس من قبيل المصادفة أن التخفيضات في المساعدات الخارجية البريطانية التي دفعت وزيرة التنمية الدولية، أنيليس دودز، إلى الاستقالة جاءت بعد أسبوعين فقط من إلغاء ماسك لعقود الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وأمره بإزالة اللافتات من مقر الوكالة في واشنطن.
في أميركا، فخر ترمب بإلغاء وزارة التعليم. أما في المملكة المتحدة، فقد كان ويس ستريتين الذي لم يتمكن من إخفاء قدر من الرضا المتجهّم عندما أعلن أن نهاية هيئة الخدمات الصحية الوطنية في إنجلترا باتت وشيكة. من الذي تحدث بازدراء قبل بضعة أشهر- وبأسلوب “ترمبي” واضح – عن “كثرة الموظفين في الحكومة البريطانية الذين يسبحون بارتياح في مياه الركود الإداري”؟ إنه كير ستارمر نفسه، ذلك الثائر الهادئ، وقد بدت على ملامحه سخرية غير معهودة.
والآن، حان دور ريفز لخفض الخدمة المدنية بنسبة 15 في المئة – أي 10آلاف عملية تسريح أخرى في القطاع العام، لتضاف إلى آلاف الوظائف التي أُلغِيت في هيئة الخدمات الصحية الوطنية في إنجلترا. ريفز كانت قد أقالت رئيس هيئة مراقبة المنافسة في البلاد بسبب افتقاره إلى الحماسة الثورية في البحث عن النمو الاقتصادي؛ وألغت هيئة تنظيم أنظمة الدفع (على غرار البيت الأبيض الذي ألغى ذراع حماية المستهلك)؛ وأمرت كل إدارة ووكالة حكومية بوضع خطة لتعزيز الاقتصاد- أو مواجهة العواقب.
وتقول إنها ستستخدم “قبضة حديدية” في مراجعة الإنفاق الشاملة والمفصلة التي من المقرر الانتهاء منها في الصيف. بيان الربيع لهذا الأسبوع سيوضح صرامة مطالبها بالكامل– ربما تشمل مجالات مثل التعليم التي كانت محصنة حتى الآن.
لن تكون التخفيضات التي أجرتها ليز كيندل [وزيرة العمل والمعاشات] على إعانات المرض والإعاقة آخر إجراءات التقشف التي تصدر عن الحكومة البريطانية هذا العام. في الواقع، بالنظر إلى القرارات الجريئة بشأن توسيع مطار هيثرو وتخفيف قوانين التخطيط العمراني، قد يتم تعديل الأهداف المتعلقة بتحقيق “صافي انبعاثات صفرية” (Net Zero)، حتى لو ظل الالتزام الرسمي بها قائماً.
بحسب جميع التقارير، أثارت خطط ريفز وكيندل للنمو الاقتصادي وإصلاح دولة الرفاه بعض القلق داخل مجلس الوزراء أثناء مناقشتها، حيث سمح كير ستارمر بطرح مختلف وجهات النظر بحرية. لكن في النهاية، اضطرت شخصيات مثل أنجيلا راينر وإد ميليباند إلى القبول بالأمر الواقع التزاماً بمبدأ المسؤولية الجماعية، ولم تقدم على الاستقالة احتجاجاً على هذا التوجه نحو “الترمبية” سوى أنيليس دودز.
أما التمردات البرلمانية ضد السياسات التي فرضها ستارمر وريفز – والتي غالباً ما تتجاوز ما تم التعهد به في البرنامج الانتخابي – فقد كانت محدودة. في الوقت الحالي، على الأقل، يبدو أن ستارمر يفرض سيطرة محكمة على حزبه البرلماني، تماماً كما يفعل ترمب مع الجمهوريين في الكونغرس.
فإلى أي مدى سيستمر هذا التحول الترمبي الغريب لـ”ستارمر”؟ من المخيف مجرد التفكير في الأمر. الخطوة التالية الأكثر وضوحاً، إذا استمر هذا الاتجاه المقلق في التسارع، ستكون حملة لـ “تأمين الحدود”، تماماً كما فعل ترمب مع المكسيك (أو كما زعم أنه فعل). بل إن هناك إشاعات بأن ستارمر، الذي كان محامياً بارزاً في مجال حقوق الإنسان لمعظم حياته البالغة، يبحث عن طرق لتخفيف بند “الحق في الحياة الأسرية” في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان وقانون حقوق الإنسان في بريطانيا.
من المستبعد أن ينسحب تماماً من الاتفاقية، أو هذا ما نأمله، ولكن يبدو أنه ومستشاره المقرب، مورغان ماك سويني، يسعيان لإيجاد طريقة لتجنب العناوين الصحافية المحرجة في الصحف الشعبية- حتى لو كانت وهمية أو ملفقة- مثل تلك التي تزعم أن مجرمين يُسمح لهم بالبقاء في المملكة المتحدة لأن طفلهم يفضّل نوعاً معيناً من قطع الدجاج المقلية، أو أن محتالاً متخصصاً في “الخداع العاطفي” لا يمكن ترحيله لأن زوجته وأطفاله يستخدمون خدمات الصحة الوطنية.
ارتفاع الضرائب يدفع ثقة الشركات البريطانية إلى أدنى مستوياتها في عامين
وكما هي الحال مع إحباطاته على الجبهة البيئية حول “أنفاق الخفافيش” و”العناكب القافزة” التي تعرقل الاستثمار في البنية التحتية [القوانين البيئية التي تُلزم مشاريع البنية التحتية في المملكة المتحدة باتخاذ تدابير لحماية الحياة البرية، مثل بناء ممرات آمنة للخفافيش أو الحفاظ على موائل معينة للعناكب النادرة]، يبدو أن ستارمر وفريقه يطورون ميلاً شبه ترمبي نحو الشعبوية. ولا يوجد مجال يمكن تطبيق ذلك فيه بشكل أكثر دراماتيكية من مسألة العبور غير النظامي عبر القنال الإنجليزي.
مدفوعاً جزئياً بالخوف من الضرر الانتخابي الذي قد يلحقه نايجل فاراج [زعيم حزب ريفورم] بحزب العمال، يبدو أن الحزب لا خيار أمامه سوى مغازلة اليمين المتطرف بصراحة (أو الاستجابة لمخاوف الناخبين التقليديين لحزب العمال، بحسب الطريقة التي يمكن النظر إليها).
على رغم أن ستارمر وترمب مختلفان تماماً من حيث الشخصية والخلفية، إلا أن التشابهات في سياساتهما أصبحت أكثر وضوحاً. بل تشير الأدلة إلى أنهما طوّرا علاقة شخصية دافئة على نحو غير متوقع. فهل يمكن لابن صانع الأدوات من مقاطعة سري نشأ في بيئة ذات ميول اشتراكية، أن يكون لديه قواسم مشتركة مع ابن ملياردير مطوّر عقاري في نيويورك؟ أو أن يكون للمدير السابق للنيابة العامة أي شيء مشترك مع مجرم مدان؟ أو أن يجتمع المؤمن بـ”اليقظة الثقافية” والتعددية مع الرجل الذي استأصل سياسات التنوع والمساواة والشمول من الحكومة الأميركية؟ يبدو أن الأمر كذلك.
أما خلفية ستارمر في مجال حقوق الإنسان وسمعته كـ “ليبرالي” (كما يصفه ترمب)، فلا يبدو أنها تزعج البيت الأبيض الحالي، الذي قد يكون أكثر انبهاراً بحجم فوز حزب العمال في الانتخابات العامة (وإن كان عدد المقاعد في البرلمان مضللاً بعض الشيء)، وموقف ستارمر المهادن.
ربما يشعر ستارمر، وهو النموذج المثالي للموظف المدني الذي لم يكتمل كزعيم، على غرار تيد هيث أو تيريزا ماي، بشيء من الحماسة الغريزية عندما يشهد السرعة والجرأة التي يتحرك بها نظيره في واشنطن. حتى الآن، تجنب رئيس الوزراء بعناية توجيه أي انتقاد لتعريفات ترمب الجمركية على الصادرات البريطانية، أو لخططه (إن جاز تسميتها كذلك) للسلام في أوكرانيا والشرق الأوسط – وهذا هو نوع الولاء الذي يتوقعه ترمب. ستارمر يحرص على البقاء في جانبه.
قد ينهار هذا التحالف الغريب في نهاية المطاف – فترمب ينتهي به الأمر دائماً إلى الاصطدام بالجميع- وربما يأتي وقت يصرخ فيه حزب العمال، الذي يلتزم الصمت حالياً، “كفى” مع استمرار التخفيضات المؤلمة في الإنفاق العام والخدمات.
ولكن في الوقت الحالي، نشهد تحول ستارمر إلى ما يشبه “المتحول الترمبي”- وهذا أمر مخيف.