انتهى تلفزيون سوريا قبل فترة وجيزة من عرض سلسلة وثائقية بعنوان “خلية الأزمة”، تناولت بالتفصيل عمل المجموعة التي شكلها بشار الأسد، رئيس النظام البائد، من رجالات حكمه، لتتعاطى مع مجريات الثورة السورية بُعيد فترة وجيزة من انطلاقها.
غير أن أهم ما قدمته الحلقات الأربع هو تفكيك الروايات المتناقضة حول الانفجار الغامض الذي أنهى حياة معظم أعضائها صباح يوم 18/08/2012، حيث برزت طوال الـ 13 سنة الفائتة سردية رائجة في أوساط المعارضة تقول إن النظام هو من دبّر الحادثة من أجل تصفية بعض القادة، ممن كان يراقب تواصلهم مع الأميركيين ويخشى أن يقوموا بالانقلاب عليه. وقد تركز الحديث هذا حول آصف شوكت، صهر الأخوين بشار وماهر، أي زوج بشرى الأسد، فيما جرى الحديث عن أن بعض القادة الآخرين كانوا يرفضون الزج بالجيش في الأزمة، كي لا يؤدي ذلك إلى إضعافه!
لكن بيضة القبان في جديد تلفزيون سوريا جاءت من خلال تقديم السلسلة التي أخرجها بحرفية شادي خدام الجامع، مقاطع مصورة قام بتسجيلها عدد من الرجال، تُظهرهم وهم يقومون بتركيب العبوات الناسفة في الشقة التي كانت تجتمع فيها الخلية. حيث في خلفية هذه الوثائق، يتبين أن ثمة جهة تنتمي إلى الجيش الحر هي من دبرت التفجير الذي خلق معطيات جديدة في سيرورة الحدث السوري آنذاك، الأمر الذي يؤدي في المحصلة إلى نقض السردية السائدة، وتغيير مسار قراءة التاريخ نحو ضفة غير متوقعة!
ورغم وجود الفيديوهات التي تم فحصها تقنياً ومضمونياً من قبل جهات مختصة ذات سمعة عالية، إلا أن صناع العمل الوثائقي تركوا الباب موارباً أمام فرضيات أخرى. يمكن تلخيص إحداها بالقول إن النظام اكتشف القصة مبكراً، وترك المنفذين يقومون بعملهم، بل إنه أضاف إلى أدوات التفجير عبوات ناسفة صغيرة بحيث تجعل موت الجميع محققاً!
أهمية التكنيك المتبع في إنهاء السلسلة تأتي من عدم الإغلاق على الأفكار الأخرى في تحليل ما جرى، حتى وإن كنا نظن أن ما نراه هو الحقيقة، إذ يستند إلى أهم الأدلة التي يُعتد بها في أفضل الأنظمة القضائية والقانونية. كما أن هذا الطرح يحرضنا – ومن موقع التلقي – على إبقاء نوافذ العقل مفتوحة على كل الاحتمالات، وإجبار ذواتنا على تقبل وجود حقائق مختلفة عن رغباتنا وما تهواه أنفسنا!
لكن، لو أننا تعاملنا مع القصة منذ بدايتها، وقمنا بمتابعتها دون وجود عوائق أو رقابة تمنعنا من الوصول إلى الحقيقة، فإن جهدنا الراهن لفهم ما جرى وتقليص الروايات المتضاربة أثناء البحث عن الحقيقة لا بد أن يقل إلى درجة كبيرة، حيث سيكون الأمر مجرد فعل إجرائي نحتاجه من أجل سلامة التصرف واتباع القواعد.
وعلى ضخامته، فإن ما تم بذله في تحليل حادثة واحدة، كقصة تفجير خلية الأزمة، وبالقياس إلى الأحداث الهائلة التي جرت في سياق الثورة وحرب النظام على السوريين الثائرين، وسياق رد الفعل عليه، سيبدو للمشتغل في التوثيق والتحقيق مجرد جهد مكرس للحظة واحدة من بين لحظات أخرى أشد تأثيراً! وكلها تخالجها الروايات غير اليقينية، أي أنها تحتاج إلى إعادة كتابة، قبل أن يتم رصفها في موقعها على جدار التاريخ، حيث لا بد من جعل جزئياتها تتراكب مع ما قبلها وبعدها، وكذلك ربط سياقات الفعل فيها بالدوافع المعلنة وغير المعلنة للفاعلين!
هذا شيء يكاد يقارب القول بأن علينا كتابة القصة كلها منذ بدايتها، وفق منهج متماسك، يُبنى على معيارية لا تهاون فيها!
وإذا كنا نتحدث بهذه الطريقة عن أحداث جرت في الماضي القريب ونحتاج إلى إعادة تدوينها بما يرضي الحقيقة قبل الضمائر والأهواء والرغبات، فإنه من الأولى بنا – ونحن ما زلنا على قيد تصحيح الحياة السورية بعد إسقاط النظام الأسدي الإجرامي – أن نسعى إلى توثيق الوقائع الحالية وفق ما نريد له أن يكون أفضل وأرقى أشكال التجرد والحيادية، وأن نؤسس لأسلوب عمل مختلف نسعى إلى فرضه، حتى وإن رأت بعض جهات السلطة الجديدة أنه لا يتبع تفضيلاتها، بل إنه من الواجب أن تدعمه، طالما أنه يجعلها حيادية ويجنبها التورط في دعم الجناة هنا أو هناك!
نتحدث هنا بالتأكيد عما جرى في يومي السادس والسابع من آذار الماضي في الساحل السوري، ونشير إلى ما يتوجب على الدولة القيام به، بعد أن مضى على عمل لجنة التحقيق الخاصة ما يقارب شهراً، حيث يصبح من واجبها بعده أن تقدم تقريرها إلى رئيس الجمهورية! لكننا لا نتجاهل ما صرح به الناطق باسمها في آخر تصريح صحفي عن العوائق التي تواجه عملها وعن خوف الشهود من تقديم شهاداتهم! مما قد يؤخر وصولها إلى الحقيقة الراسخة حول من يتحمل مسؤولية ما جرى!
يحتاج صاحب القرار في سوريا الراهنة إلى جرأة استثنائية وقوة قلب، كي يتخذ القرارات الصائبة تجاه الجرائم المرتكبة بحق الضحايا بغض النظر عن انتمائهم الطائفي أو العرقي. ولعل أهم ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في هذه اللحظات، أن الوصول إلى الحقيقة لن يكون أمراً سهلاً دون تعزيز قدرة الإعلام والصحافة على العمل، وحماية أبناء المهنة من الأخطار التي يمكن أن يتعرضوا لها في سياق بحثهم عن الحقيقة. وبالقدر ذاته، تصبح حماية الفرق الحقوقية العاملة على الأرض ضرورة ملحّة، وهي تمضي إلى كشف أصحاب الأجندات الشخصية أو الخاصة، وهم يعبثون بمصير الجميع، شعباً ودولة!