لطالما فتن لويس فرديناند سيلين خصومه. بدت حججه لخصومه من المفكرين لا ترد إلا بالتخوين، بنبذه من الجماعة التي ينتمي إليها، وهذا والحق يقال كان مطلبه. لكن سيلين المنبوذ من الجماعة، لم يكن يريد الانتماء إلى جماعة أخرى. كان ببساطة يريد أن يكون فردًا. الفرد الذي تغنت بولادته الدول الحديثة، كان بالنسبة له غير موجود. ليس غير موجود وحسب، بل إن من تطلق عليه صفة الفرد بات بلا خصائص من أي نوع. وبصرف النظر عن مآلات سيلين الشخصية، وما دفعه لسلوك مسالكه الشائكة، إلا إن كتابته، خصوصًا في روايته الأولى والأهم “سفر (رحلة) إلى آخر الليل”، كانت دائمًا تضيء الفشل العام الذي منيت به الدول الحديثة في صناعة حقوق للإنسان الفرد من أي نوع.

كتاب الـ “سفر إلى آخر الليل” يتابع سيرة الرجل الأوروبي في بدايات القرن الماضي، قرن الحروب والمذابح وتشكل الأمم على أنقاض المدن والعلاقات والأرواح. الرجل الأوروبي الذي كان يدفع دفعًا لأن يحوز صفة البطل. البطل القادر على قتل الأعداء. هؤلاء الأعداء، على ما يرى سيلين، لم يسيئوا إليه شخصيًا، هو المدفوع إلى تقمص روح البطل. بعكس الضباط والجنرالات الذين كانوا لا يسيئون إليه وحسب، بل يسيئون إلى من يدعون أنهم يضحون بأنفسهم من أجل حمايتهم. والحق أن تبعات الحرب، والحديث هنا عن الحرب الأولى الكبرى، لم تكن تولي المدنيين والعائلات أهمية كبرى، لكنها على الأقل كانت تحاول وضعهم في خلفية المشهد، كنازحين ومهجرين، فقراء وبلا أي مورد، إنما أحياء ينتظرون، ولا يسعون. في حين أنها كانت تلزم الرجال، بألف طريقة ووجه، على التضحية بأنفسهم.
في نص سيلين المبكر جدا، إعلان صريح أن الكارثة المقبلة سيكون سببها هذه الاستهانة بحياة الذكور الذين كانت الأمة “تعدهم واحدا واحدا وترقمهم بوصفهم من سيموت غدا”. وهي إذ تعدهم على هذا النحو وتحصيهم، فإنما تحتفل بموتهم قبل أوانه وتطلب منهم المشاركة في هذا الاحتفال.

كتابته، خصوصًا في روايته الأولى والأهم “سفر إلى آخر الليل”، كانت دائمًا تضيء الفشل العام الذي منيت به الدول الحديثة في صناعة حقوق للإنسان 

في واحد من مشاهد الرواية، يروي سيلين كيف أن الأسرى الألمان الذين يتم اعتقالهم، يشاركون الجنود الفرنسيين الطعام المتوافر، والسير المنهك، وهم يعرفون أنهم ما أن تستقر الأحوال بكتيبة الجنود وتخيم في مكان ما من الجبهة، سيقتلون من دون رفة جفن. هؤلاء الأسرى الذين كانوا يعرفون أنهم يساقون إلى حتوفهم، ما كانوا يعترضون على المسير وما حاولوا إعاقة تقدم الكتيبة الفرنسية نحو هدفها، ولو حدث وأن تعرضت الكتيبة لكمين ألماني، فربما كانوا سيقتلون برصاص رفاقهم السابقين. هذه المحنة التي يجد فيها الأسرى أنفسهم، تجبرهم على نحو ما أن يكونوا فرنسيين قبل ساعات من موتهم بوصفهم من أعداء الفرنسيين.

لكن قتل الأسرى ليس بالأمر الذي يمكن وصفه بالهمجي في معايير الأمم ووفق أخلاقها. إذ كان الرجل الفرنسي أو الألماني مرغمًا على تقديم نفسه للموت، أحب ذلك أم لم يحب. أكان شجاعًا متهورًا أم كان جبانًا رعديدًا. كان على الذكور، الأصحاء منهم على وجه التحديد، أن يتقدموا للموت لأن الأمة تريد موتهم.

ما كشفه سيلين في ذلك الزمن قوبل بالاستهجان والاعتراض وحملات التخوين. لكن النتائج التي ترتبت على صناعة القرابين باتت اليوم محالة الاحتمال. في ذلك الزمن، لم يسمح للذكور أن يحرصوا على حيواتهم، لأن حدود الأمة ومجدها متوقفان على سخائهم في إراقة دمائهم عن طيب خاطر، ومن دون تفكير. هذه هي الشجاعة كما وصفها سيلين. أن تكون شجاعًا يعني أن تقتنع ملء روحك بأن حياتك لا قيمة لها، وعليك أن تنفقها على النحو الذي يفيد الأمة التي وحدها من يحق له الحياة. إنفاق الحيوات والاستهانة بها استمرا على وتيرتهما الصادمة طوال عقود حياة الدول الحديثة، وحيث أن الرجال، في أي حرب بين أمتين، منذورون للموت، فإن الجيوش باتت تنحو أكثر فأكثر إلى إيلام الأمة العدو في من لم يتحولوا إلى قرابين بعد: العجائز والنساء والأطفال. هكذا نحت الحروب نحو اعتبار البشر، من غير الرجال الأصحاء في الجهة الثانية من الحدود، ضحايا لا قيمة لحيواتهم، ولا لمصائرهم، وينبغي التضييق عليهم ما أمكن، فإذا لم تمتهم المدافع والطائرات، يتولى الحصار الجائر تحويل حيواتهم إلى جحيم يومي يودون لو ينتهي بالموت.

إن تذكّر سيلين اليوم يجد مبرراته العميقة في هذا الدفع اللامتناهي للناس في كل مكان، لأن يكونوا مختلفين عن الجماعة المسيطرة: الأحزاب العنصرية واليمينية التي تتكاثر كالفطر في كل مكان، الهمجية الإسرائيلية التي تمنن الفلسطينيين بأنها لم تقتلهم إلا جوعًا وعطشًا، الأسرى الذين ما أن يصبحوا في قبضة العدو حتى يصبحون خارج الجماعة، الدفع الطائش واللامتناهي للناس نحو التمنطق بأفكار انتحارية، الحدود الغليظة التي تمنع الناس من أن يكونوا متساوين أمام القانون، الدولي والمحلي، دفع القادرين والمتمكنين من الأمم الضعيفة إلى النجاة بأنفسهم والانتماء إلى أمم أكبر. ما تقدم تعداده، في ضوء كتابة سيلين، يفسر لماذا كان بعض اليهود في معسكرات التجميع يشاركون في تحضير المحارق لمن سيلجونها من أهلهم وأقرانهم. وما تقدم تعداده يفسر أيضًا، كيف يمكن لإنسان أن تحظى حياته بكل هذا التضامن، في مقابل آخر يفضل العالم أن يموت في صمته وجوعه وعوزه، فإن لم يمت بهذه كلها تقصفه الطائرات.