لا أعرف إلى أي مدى يمكن شرح مبنى رواية “غيبة مي”، أو الخوض في فكرة الذات كما قدمتها نجوى بركات. هي أكثر وأبعد من فكرة عابرة بسيطة، هناك استخداماتٍ تشعّبت وتنوعّت على مدى الجزأين، “مي” و”هي”، وصولًا إلى حالة استلاب/ اغتراب مهيمِنة، في العمق. في الجزء الثالث، “يوسف”، تنحو الرواية منحى مختلفًا في عملية تحوّلٍ تامّة.
نحن إزاء رواية تتطلب رؤية ذاتية وتصوّرًا متعمّقا، لذا كان لا بدّ من نقلها إلى مستوى فكري يقوم على العلاقة بين الأنا والذات، بين “مي” و”هي”. المادة صعبة لأن ذلك يتطلّب من الأنا أن تكوّن نظريةً عن ذاتٍ هي في حدّ ذاتها جزءٌ منها. بين “مي” و”هي”، حالة استلاب وغربة، فقد بقيت “مي” ذرةً تائهةً بين الذرّات، فلم تخلق الروح ذاتَها في آخَر، على ما تقوم عليه المنظومة الهيغيلية. أيضًا، تمتد مساحة الحروب في الرواية، حيث بيروت مكشوفة متروكة. وعندما لا يعود الخارج امتدادًا للأنا، لا يبقى للفرد سوى الانزواء، فيكتسب هنا مفهومُ الاستلاب حق الوجود في رواية كالتي بين أيدينا، روايةٌ فريدة، سفينة تمخرُ أمواجًا متلاطمة.
الاستلاب روح احتجاج، ونقد للإنسان دفاعًا عن الايمان، ثم دفاعًا عن الجوهر الإنساني المستَلب. الاستلاب يحوي ظلال السلب والتدمير، والسلبية هي النكوص والانطواء، وهو في حالة “مي” قد خدم أشد الظواهر تباينًا وتنوعًا وتناقضًا في وعيها، عندما داهم السيدة الثمانينية المنزوية، صوتُ امرأةٍ يناديها بإلحاح، فراحت ترصده بدقة وحذر وهلع. استعانت بالناطور يوسف، فأكّد لها أنه “لا أحد في البيت يا ست مي”. يعرف يوسف كل التفاصيل داخل الشقة المشرفة من الطابق التاسع على بيروت، هو المكلّف العناية بمي لوجود توأميها في أميركا. وفي إثر مواجهةٍ مع المرأة صاحبة الصوت، تقتنع مي أنها من كائنات الماضي، لكن أيُّ ماضٍ؟ الماضي، تقول “ثقبٌ أسود فاغر الفاه يشدُّ ويسحب بقوة المغناطيس، حتى الابتلاع”.
داخل الشقة، ومن على الشرفة، تمرنت مي على العيش بفتور ودونما انفعالات من نوع الحزن أو الغضب أو حتى الحب. ومن الطابق التاسع، ترقب التعساء البؤساء المغادرين إلى أعمالهم فجرًا، وقد هاجروا هربًا من البؤس إلى بؤس آخر. بيروت بمخزونها القصصي، تتراكم فيها المآسي، وتلاحق مي فوبيا اللصوص والبحر والتسونامي وانفجار المرفأ. ففي “جدليّة السيّد والعبد”، تأكيد على أنّ وعي الذات لا يمكن أن يتحقّق إلاّ من خلال وعي الآخر، لأن الذات نظامٌ معقَّد نفسيًَّا واجتماعيًا. يسأل هنري ميللر في “اعترافات الثمانين”: “هل يستطيع الإنسان معرفة ذاته معرفةً تامة؟”، إنها سرٌّ يبقى منغلِقًا.
“بيروت بمخزونها القصصي، تتراكم فيها المآسي، وتلاحق مي فوبيا اللصوص والبحر والتسونامي وانفجار المرفأ”
حين أزعمُ أن نظرية الرواية تقوم برمتها على علاقة الجزأين الأولين من مبنى الرواية، جزء “مي” وجزء “هي”، في برزخ الذات والاستلاب، فإن المعالجة الروائية ضبطتْ تلك العلاقة المعقَّدة عبر المعاني والدلالات. تعالج ذات “مي” الإنسان الفرد- الإنسان الجنس، ثم علاقتها بالرجل، وخوضها نار الحب ثم الزواج البارد، فالأسرة، الأبناء- التوأمان، بعد الغيبة لفترة طويلة. سردُها مذهِل، غيبة الصدمة والإحباط، غيبة الانتقال إلى مكانٍ آخر، وفي سرد التداعي البركاتي الحرّ، مرورٌ على ديناميكية الرغبة الخفية الكامنة في اللاشعور سوف تكشفه “هي” في الجزء الثاني، فيماط اللثام عن قوة إيروس Eros التي كانت قد جمعت مي مع كائن أرادت الالتحام به في وحدة ارتقائية تؤمن لها استمراريتها وسبيل الوصول إلى الإشباع، تحقيقًا لرغبة الروح المُطلقة، في الحرية والوعي. هذه القوة اختلّت في الحب، سواء في مفهومها الجنسي أو الاجتماعي، ولم يفلح الانتقال إلى مكانٍ بعيد، في عمشيت، أن يجمعها بالحب كقوة تمثّل الحياة، ولم يتح لها الأمومة أيضًا بوصفها محرّكًا. هذه الديناميكية لم تصل إلى الإشباع، فكان ميدان مي الروحي الخالص هو ميدان الإبداع، وفيه كانت روحها تخطو خطوتها الأخيرة نحو الحرية. لقد عشقت مي المسرح وأبدعتْ، مثّلت وكتبت نصوصًا وكتبتْ نصّه هو. إبداعات مي الروحية كانت عتبتها الأولى. ولكنها أحبطت مرغمة، في مواجهة قوة خفية تدميرية مميتة، فلجأتْ إلى أكثر الوسائل فظاظة في الردّ على انكسار التجلّي. نحتتْ في الحجارة، وشريط الحروب يمر في شوارع العاصمة المظلمة. لم ينصبّ السرد على الفعل، لقد تجاوزت الراوية موضوع الفعل إلى الهوام، موطن الرغبة المكبوتة، المكسورة…
دخل عليّ الصباح وأنا أقرأ نجوى بركات في رواية “غيبة مي”، أُصغي للسرد المتجوّل المنضبط، المتنقّل، المتقاطع، المتموضِع، الذي أراني وجهَ مي في التحولات المستمرة وطرق إدراك الذات. إنها “هِي”، العملية التحقّقية تصبح محرّكًا من الداخل، الجزءان “مي” و”هي” منطلقان يرتكز عليهما مفهوم الذات، أي كون الإنسان منشطرًا على نفسه في قسمين، لا شعوري وآخر شعوري. لكن الانشطار هنا لا يشكّل فاصلًا بقدر ما هو ترابط ضمن سلسلة دالاّتٍ لها بنية ارتكزت عليها الراوية بضمير المتكلم، في تجوال السرد بين انتظار الموت والدعابة والفكاهة. وفي توصيف المكان والزمان، وتصريف أعمال مي وعلاقتها بالقهوة والأعشاب والأرق والناطور والقطة وشاميلي الفتاة السيريلانكية، يتدفق السرد للتعبير عن الذات عبر المجاز والكناية.
لقد شكّلت تحركات “مي” بين صالون شقتها والشرفة والمطبخ، وكلامها عن ماضٍ منفصل، تركيبة فوقية تغطي لغةً تحتية، لغة ذلك الحب كما عاشته شابةً. وقد أخذت نجوى القارئ إلى حقول الحب الشاسعة: أيامٌ بطولها بين العاشقين، تنقلب إلى صراع مع نزعة تدميرية كفيلة بأن تودي إلى القتل، فهل كان خوف مي يكمن في موضوع رغبة الذات؟ هل توهمت إمكانيةً تتعدى حدودها وقد غذّتها نرجسيّةٌ قديمة نابعة من واقعٍ نفسي، علّمها رفض الإلتزام بالواقع الخارجي؟
في الجزء الثالث، سيؤجر يوسف الناطور الشقة أو يبيعها، بناء على طلب التوأمين الغائبين دائمًا. هو وحده يتابع أنفاس مي وحركتها. جاء من ضواحي حلب هربًا من الحرب، ولا يدري، يقول، أيّنا الأسوأ حظًا، نحن السوريون أم اللبنانيون أم شاميلي؟ تصبح الشقة المكان الآني لاستحضار ماضي مي. يقدّم يوسف ظاهرة إنسانية مميزة، يعيش مع مي حالةً إنسانية حقيقية، مشاعره نحوها عفوية، صادقة، تتجمع لديه عدة مواد تتيح إمكانية إعادة بناء الوعي، واستذكار أحداث ماضية والسيطرة على مشاعر كانت مكبوتة. الجزء الثالث مساحة مصالحة، وعملية تحويلٍ تامّة لحالة تناحرية ضيقة تضغط بشدة على مصير العيش والثقافة بين المواطنين والمهاجرين والنازحين والعمال. يوسف يعيد تركيب عناصر العلاقات من جديد.
يقول ميللر في “اعترافات الثمانين”: “لا ينبغي تمزيق الحجاب الأخير، لأننا عندما نزيح الحجاب الأخير نرى العدم، والفكرة الأكثر رعبًا هي أن ترى وأن تفكر داخل العدم، فقد يكون كل ما حولنا، ما عدا الحب، لا شيء، وذاك هو الجنون. كلُّ ما فوق التراب تراب، وأنا الغريق فما خوفي من البلل”. يحمل الحب في هذه الرواية كشف الجمال في المعنى، كمعنى الخير ومعنى الحقيقة، حيث لا يستحق الإنسانُ وجودَه إلاّ إذا كان عاشقًا كبيرًا!
شارك هذا المقال