قد لا يبدو استدعاءُ واقعة اغتيال الضابط السوري، عدنان المالكي، قبل 70 عاماً، ذا أهميةٍ، بالنظر إلى وقائع أخرى أكثر دراماتيكيةً شهدتها سورية، وفي مقدّمتها الحرب الأهلية التي انزلقت إليها نتيجة القمع الذي جابه به نظامُ بشار الأسد الحراك الشعبي الذي بدأ في 2011. غير أن العودة إلى التاريخ السوري المعاصر تكشف أهميةَ تلك الواقعة التي كان لها، مع وقائع أخرى بطبيعة الحال، أثرها في تحديد معالمِ السياسة السورية ودفعِها نحو مآلها المعلوم.

لقي عدنان المالكي (1919) في 22 إبريل/ نيسان 1955مصرعه غيلةً في ملعبٍ لكرة القدم في دمشق، على يد أحد الجنود المؤيدين للحزب السوري القومي الاجتماعي، في سياق الصراع السياسي الذي كانت سورية مسرحاً له بين أحزاب وتنظيمات، كانت ترى في الجيش الوسيلة الأكثر فعالية للوصول إلى السلطة. لم يكن الاغتيال مجرّد فصلٍ في صراع حزبي البعث والسوري القومي الاجتماعي، بقدر ما كان أحد الأحداث المفصلية في تاريخ سورية المعاصر. فمن ناحيةٍ، أتاح لـِ”البعث” التخلص من أحد أكبر القوى السياسية المنافسة له، خاصة بعد أن أصبح “القومي الاجتماعي”، منذ نهاية الأربعينيات، رقماً رئيساً في السياستَين اللبنانية والسورية. شكّل اغتيال المالكي، بكل تبعاته، بدايةَ تراجع نفوذه وانحسار تأثيره في مجريات السياسة السورية بعد ذلك، إذ فقد جزءاً كبيراً من رصيده الرمزي والسياسي الذي راكمه، عقب إعدام زعيمه أنطوان سعادة (1949)، في وقتٍ كان حزب البعث قد أصبح قوة اجتماعية لا يُستهان بها، وبالأخص بعد اندماجه بالحزب العربي الاشتراكي (1952)، وتحوّل إلى ثاني أكبر حزب في مجلس النواب السوري بعد انتخابات 1954. وبدأ خطابُه القومي الحالم يجتذب قياداتٍ وازنة في الجيش السوري، وفي مقدّمتها المالكي الذي كان يجرّ خلفه رصيداً عسكرياً مشرّفاً؛ حيث كان ممن أشرفوا على هيكلة الجيش السوري بعد الاستقلال، وشارك في حرب فلسطين (1948)، وكان من أكثر الضباط تأييداً لحزب البعث. ولذلك قدّم اغتيالُه للحزب فرصة غير متوقعة لتعزيز شرعيّته على أكثر من واجهة.

من ناحية أخرى، كان مصرع المالكي بداية انتقال مركز الثقل داخل الحزب (البعث) من القيادة التاريخية (المدنية) وامتداداتِها المختلفة إلى الجيش. وبمعنى آخر، كان ذلك بداية عسكرة الحزب، سيّما أنه تزامن مع صعود العسكرتاريا الناصرية وتبنّيها القومية العربية التي مثّلت الأساس الفكري الذي قامت عليه حركة البعث العربي مطلع أربعينيات القرن الفائت. فسنوات قليلة بعد ذلك، سيتم تأسيس ما تُعرف في أدبيات “البعث” ”اللجنة العسكرية” التي رأت النور في مصر خلال الوحدة المصرية السورية، وضمّت عسكريين، بينهم حافظ الأسد وصلاح جديد، لم يكونوا موافقين على قرار حلّ الحزب، الذي كان أحد الشروط التي وضعها جمال عبد الناصر لإقامة الوحدة مع سورية. حمّلت تلك اللجنةُ القيادةَ التاريخية، المدنية، للحزب (ميشيل عفلق، صلاح الدين البيطار، أكرم الحوراني) مسؤولية حلّ هياكله. وكان ذلك بداية هيمنة الجناح العسكري على الحزب، وانحسار نفوذ جناحه المدني. كما كان أيضاً مقدّمةً للاستقطاب الحادّ الذي سيصبح الحزب مسرحاً له؛ استقطاب عكَس الصراع الاجتماعي بين الفئات والشرائح الاجتماعية المنحدرة من الأرياف، والتي كان الجيش، بالنسبة لها، أداة للارتقاء الاجتماعي، والفئات والشرائح الحضرية (الدمشقية) المتخوّفة من هيمنة خطابٍ يساري راديكالي (عسكرتاري) على الحزب، عكَس، في الواقع، التدافعَ الطائفي والمذهبي بين السنة والعلويين، وإلى حدٍّ ما الأقليات الأخرى، داخل مؤسّسات الدولة والمجتمع السورييْن بعد الاستقلال.

… ربما يفسر ما ورد أعلاه إطلاقَ النار الذي تعرّض له تمثال عدنان المالكي، في إحدى ساحات دمشق، قبل حوالي شهرين. فعلى الأرجح أن من أطلق النار لم يكن يستهدف التمثال في حد ذاته، بقدر ما كان يستهدف القطعَ مع إرث الاستبداد والقمع والعسكرة والطائفية الذي كان اغتيال المالكي، قبل 70 عاماً، بداية تشكّله داخل الدولة والمجتمع السورييْن.