أكتب لكم نشرة اليوم من إسطنبول حيث تبدو الحياة بأشيائها وناسها وكأنها تمرّ في مرحلة تحوُّل. فبعد الهزة الزلزالية القوية يوم الأربعاء وما تلاها من هزّات ارتدادية مستمرة، يشعرُ كثيرون من أهل المدينة أنّ الوجود غير ثابت وأن لحظة الضربة الأولى المفاجئة تتكرر فلا تملك فعل شيء لمنعها ولا تملك أمرَ ما حولنا.
التركيز في هذا الظرف صعب، لكن مقالات هذا الأسبوع شدّتني بموضوعاتها المتنوعة ونقلتني من إسطنبول وزلزالها إلى مدنٍ أُخرى منها الرياض وعمَّان وحمص وأبعدتني في الزمان عن اللحظة الحالية، فهي ترصدُ تحولاتٍ دينية وسياسية وفنيّة وشخصيّة مشوِّقة.
أوّل مقالاتنا يتكلم عن “عبد الله الحامد ومشروعه الإصلاحي”، وهو حقوقي وناشط سياسي سعوديّ بارز، تُوفي قبل خمسة أعوام في محبسه. بدأ الحامد حياته العملية مهتماً بالأدب ونقده وعاش في ظلّه “النخبوي” كما يقول لسنواتٍ مؤلفاً الكتب والمقالات فيه، حتّى جاء إعصار حرب الخليج سنة 1990 فانقلبت حياته، ومثله العشرات ممن نشطوا سياسياً في تلك السنوات. قرّر الحامد مغادرة عالمه الأكاديمي إلى الواقع والعمل السياسي. لم يتحوّل الحامد لوحده، فالسعودية والخليج والعالم العربي أجمع تغيّروا وتحوّلوا بعد تلك الحرب.
قدّم الحامد وجهاً مختلفاً في عمله السياسي وقدّم معه مصطلحاته الخاصة مثل “الجهاد السلمي” و”دولة العدل والشورى”، وغيرها من مفاهيمَ تحدث عنها في كتبه مركزاً على الإصلاح الديني ونزع الاستبداد عنه ليكون ذلك بوابةً للإصلاح السياسي. يشرّح كاتب المقالة نواف القديمي الذي عايش الحامد لسنوات أفكاره ويقدّم نقداً بديلاً وتطويرياً لأطروحاته وتجربته السياسية عموماً.
وفي مقال آخر، يأخذنا الباحث والمؤرخ السوري فارس الأتاسي في رحلةٍ إلى حمص في مقاله “حمص: بين الأمس واليوم” فيقارن بين حال المدينة بعد سقوط نظام الأسد وحالها في السنوات التالية لانهيار الدولة العثمانية. يشرح الكاتب كيف تتشابه هموم أهل المدينة اليوم مع همومهم قبل مئة عام رغم ما مرَّت به حمص من تحولات هائلة وتهجيرٍ لقطاعات واسعة من أهلها خلال سنوات الثورة. انتقلت حمص في مئة عام من حكمٍ عثماني لاستعمار فرنسي ثمّ استبداد بعثي وأسدي، واليوم عادت حمص لتتنفس. يوثّق الأتاسي نقاشات السياسة والمجتمع في هذه المراحل المختلفة مقارناً بينها، فيبدو لك أنّ التاريخ يكرر نفسه، مع أنّ الكاتب يعترف أنّه ليس من هواة عبارة ‘التاريخ يعيد نفسه'”.
من حمص إلى عمّان عاصمة الأردن. إن زرتَ هذه المدينة ولو ليوم واحد فسترى جداريةً أو أكثر في شوارعها. تتجوّل بنا الصحفية المصرية هاجر هشام في أزقّة المدينة وأحيائها بحثاً عن الجداريات ولا تكتفي بالوقوف أمامها بل تبحث في كواليسها.
تشرح الكاتبة كيف تحوّلت هذه الجداريات من فنّ متمرد يعبّر عن الشارع وعن فئات مهمّشة، إلى مساحةٍ لإرضاء الحكومة أو المنظمات المموِّلة لهذه الأعمال الفنية. تحاجج الكاتبة أن المطلوب هو مظاهر جمالية لا جداريات ثورية أو سياسية. هذا الحصار للجداريات تزايد منذ سنة 2013 بعدَ أن انتشرت الجداريات بكثرة مع احتجاجات الربيع العربي قبلها بعامين. وتشيرُ الكاتبة إلى تشابه السياق المصري في القاهرة تحديداً مع السياق الأردني، وتوازي عملية نزع السياسة عن الفن – إن صحّ التعبير – في البلدين معاً. ولكن اللافت أنّ حصار السياسة لا يأتي من الحكومات أو أجهزتها الأمنية وحدها بل من المنظمات الدولية أيضاً، إذ تمتنع تلك المنظمات عن تمويل جدارياتٍ عن قضايا سياسية مثل قضية فلسطين والحرب على غزة.
تخيّل لو كان جدك أو أحد أسلافك شريكاً في تجربة استعمار دموية. هذا ما اكتشفته الصحفية الإيطالية ستيفانيا ديغنوتي صدفةً حين كشفت حقائق مخفية عن جدها، لتتساءل في مقالها “أكان جدّي فاشياً؟”. فتحت الكاتبة ووالدتها صندوق صورٍ عائلية قديم وقلّبت في صوره، ففتحت على نفسها باباً لكثيرٍ من الأسئلة حول جدّها وعائلتها، وتاريخ بلدها إيطاليا. تحكي الكاتبة عن رحلتها في التعرّف على تاريخ الاستعمار الإيطالي في ليبيا، مقارنةً ما تعلمه في رحلتها بما تلقّنه مناهج المدارس الإيطالية، وتتذكر صمت رجال إيطاليين كبار في السن ممن عاشوا تلك السنوات وتكتّمهم عنها. التجربة الدموية للاستعمار الإيطالي في ليبيا والتي قُتل فيها كثيرٌ من الليبيين هي مجرد تفصيل هامشي في كتب المدارس الإيطالية عن أحداثٍ وقعت في مكانٍ غريبٍ على الجهة الأخرى من المتوسط، سمّاه نظام موسوليني الفاشي “الشاطئَ الرابع لإيطاليا”.
تحكي لنا الكاتبة عن الصمت العائلي والمجتمعي عما حصل في ليبيا ثم تنتقل لإنكار الدولة ارتكابها الفظائع في هذا البلد، ليصبح النسيان مؤسسياً إذ تمنعُ الكاتبة من الوصول لأرشيف الاستعمار في ليبيا. وهنا اسمح لي أن أقترح عليك أيضاً قراءة مقالة محرر الفراتس الروائي الليبي محمد النعاس، وهي أيضاً حكايةٌ شخصية مع الوطن – ليبيا – والاستعمار وتاريخ الفاشية فيه، وعنوانها “أبناء الجيل الثالث في ليبيا بعد الاستعمار”.
وأخيراً نصل إلى فلسطين، ولكن من زاوية شخصية وتاريخية خاصة، تسردها مذكراتٌ نادرة لدرزي فلسطيني تحوّل إلى المسيحية. كُتبت المذكرات بخطّ يد صاحبها خليل معروف. وثّق معروف في دفاتره النادرة حياة الفلسطينيين قبيل النكبة وأثناء الثورة الفلسطينية الكبرى بين سنتي 1936 و1939. تحكي المقالة عن مشروع أرشفة هذه المذكرات وتقديمها اليوم ضمن مبادرة “ذكريات فلسطينية مهددة”، في محاولة لحفظ التاريخ الشخصي الفلسطيني. يسجّل معروف في مذكراته يوميات الثورة بتفاصيلها الصغيرة من الغرامات الجماعية التي فرضها الإنجليز على القرى، إلى شبكات التواصل البريدي بين العائلات المتفرقة والرقابة الذاتية التي مارسها الكاتب على نفسه خوفاً من سلطات الانتداب. يظل التحول رفيقنا في مقالات الأسبوع فأعجب ما ورد في مذكراته التحوّل الديني الذي عايشه كاتبها، من الدرزية إلى المسيحية الإنجيلية، في سياق سياسي صعب في فلسطين حينها. تشكل هذه المقالة وثيقة نادرة تحكي عن فلسطين من الأرض لا من السماء، ومن بين الناس لا من فوقهم.