علم الاجتماع ظل يطارده في برجه العادي والمسكوت عنه أقض مضاجعه وقوض لجوءه
خلال سنواته الأخيرة وقبل أن يرحل في العام 2002 عن عمر يناهز 72، وهو في عز شهرته بوصفه واحداً من كبار علماء الاجتماع الفرنسيين، عبر اهتمامه خاصة بما أسماه “بؤس العالم”، في واحد من كتبه الأكثر قسوة والكتاب الذي صنع له شهرته وأدى إلى تلك المعارك الكبيرة التي شغلت سنوات حياته الأكثر ضجيجاً، أراد بورديو وفي نوع مما اعتبره بشكل مضمر، استراحة المحارب، أن يهرب من الواقع المرير الذي كان يشغل منه البال والفكر ويؤرقه فالتجأ إلى سلف كبير له من الفلاسفة الفرنسيين النهضويين وهو باسكال، محاولاً أن يعثر عنده على شيء من راحة البال عبر تأمل فلسفي يكون نوعاً من برج عاجي يقيم فيه، ريثما يستعيد نشاطه وقوته ليستأنف تلك المعارك الميدانية التي كانت في خلفية “بؤس العالم” ثم كذلك في خلفية كتابه “التلفزيون”، الذي لم يقل استفزازية، ولكن صواباً أيضاً، عن “بؤس العالم”. فهل تراه تمكن من الحصول على ما كان يتطلع إليه من هدوء وتعمق فلسفي كان يتوخاه؟ وبكلمات أخرى: هل أوصله ذلك الكتاب الذي كان بالنسبة إليه حصيلة لجوئه إلى باسكال وعنوانه “تأملات باسكالية” إلى غايته؟
أبداً، كما سيخبرنا بورديو بنفسه. وذلك بالتحديد لأن “تأملات باسكالية” الذي كان من المطلوب منه أن ينقله من علم الاجتماع، وصخبه الحاد الذي استثاره، إلى الفلسفة وعالمها التأملي، قد انتهى به الأمر الى إعادته إلى علم الاجتماع من جديد. كيف؟ سيجيبنا هو بنفسه، إذ يؤكد منذ مطلع الكتاب أن باسكال قد كشف له أن لعلم الاجتماع “خصوصية ليس فيها شيء من التميز، خصوصية تكمن في أن مهمته إنما هي قول أمور العالم الاجتماعي الملموس، وقولها قدر المستطاع كما هي: وهذا كله عادي ولا مراء فيه”. غير أن ثمة كما يؤكد بورديو هنا، “ما يجعل موقف علم الاجتماع ملتبساً رغم ذلك بل مستحيلاً أحياناً ويتجلى في كونه محاطاً على الدوام بأناس إما أنهم يجهلون (علمياً) جوهر العالم الاجتماعي ولا يمكنهم بالتالي أن يتحدثوا عنه، وأتحدث أنا هنا عن المبدعين الفنانين والكتاب والعلماء الذين سأكون آخر من يلومهم على ذلك، إن هم اهتموا بشؤونهم الخاصة، أو أن ذلك العالم يقلقهم فيتحدثون عنه حتى بإفراط إنما من دون أن يعرفوا عنه أشياء كثيرة (ومثل هؤلاء يوجدون حتى في داخل علم الاجتماع)، وأنه ليس من النادر في حقيقة الأمر أن واجب الكلام الذي يفرضه إغراء السعي للحصول على الشهرة السريعة الأنماط وموضات اللعبة الثقافية، ينمو حين يتواكب مع السجال لأجل السجال، واللامبالاة والترفع، فينحو إلى جعل الكلام عن العالم الاجتماعي منتشراً في كل مكان ولكن بطريقة يبدو معها وكأنه لا يتكلم عنه، أو لا يتكلم عنه إلا لكي ينساه بشكل أفضل، أو يدفع الآخرين إلى نسيانه. أي أنه بكلمة بسيطة: يلغي وجوده”.
سيرة جديدة للمفكر بيار بورديو ومدخل حي إلى علمه الاجتماعي
“بؤس العالم” لبيار بورديو: الجزائر غيرتني!
الفيلسوف باسكال وجد في العقل عظمة الإنسان وشقاءه
الدور الحقيقي لعالم الاجتماع
وفي مقابل هذه الصورة لما هو مزيف وسائد مع ذلك في حلقات علم الاجتماع، يحدد بورديو في “تأملات باسكالية” الدور الذي يفهمه هو لعلم الاجتماع، مؤكداً أن عالم الاجتماع الحقيقي “بعد أن ينجز بكل بساطة ما يتعين عليه إنجازه، يكون عليه أن يفك الدائرة المترابطة لأي إنكار جماعي: عبر اشتغاله على المسكوت عنه، عبر محاولته معرفة، أو التعريف، بما لا يريد عالم المعرفة أن يعرفه ولا سيما حول ذاته، مجازفاً بأن يبدو وكأنه يبيع الهواء. ولكن لمن؟ لمن إن لم يكن لأولئك أنفسهم الذين إذ يعقل هذا يفك نفسه عنهم ولا يمكنه أن ينتظر منهم أدنى اعتراف باكتشافاته، باعترافاته وبما يكشف الستر عنه…؟”.
وهنا يضيف بورديو قائلاً في ما يبدو أنه في صدد فتح معركة جديدة من معاركه الكثيرة: “إنني أعرف تماماً حقيقة ما يتعرض له المرء، حين يخوض معركة تتعلق بمحاربة المسكوت عنه في كل ما يتعلق بالواقع الاجتماعي، والسكوت عن هذا يكون عادة ممتلكاً قوة كبرى في عالم الفكر البحت. كما أنني أعلم أنه سوف يكون علي أن أجابه الاستياء الورع الذي يبديه إزائي كل أولئك الذين يرفضون مبدئياً أي جهد يهدف لإضفاء موضوعية ما، على الأمور: إما باسم اكتمالية الموضوع وانغرازه في الزمن، ذلك الانغراز الذي يجعله عرضة للتبدل الدائم وللتفرد، وهم في مثل هذه الحالة يعرفون كنه كل محاولة تهدف لتحويله إلى موضوع للعلم، مع ما يترتب على هذا من إساءة في التعامل معه كمعطى علوي (ونتذكر هنا كيف أن كيركغارد الذي كان دائماً أكثر وضوحاً في هذا المضمار من متابعيه تحدث في يومياته عن التجديف)، وإما لأن أولئك إذ يبدون مقتنعين باستثنائيتهم لا يرون في علم الاجتماع المتعامل مع ما هو واقعي اجتماعي، سوى “تنديد” يستلهم الحقد على الموضوع الذي يطبق عليه نظرياته: فلسفة كان أو فناً أو أدباً”.
عملية تحويل معقدة
بالنسبة إلى بيار بورديو واستناداً منه إلى تأملاته الباسكالية، يبدو من المغري بل من المفيد حتى، التصرف كما لو أن مجرد التذكير بأوضاع البشر الاجتماعية إنما هو تعبير عن رغبة ما في تحويل الخاص إلى عام والمفرد إلى جمع بل حتى إلى طبقة، كما لو أن ملاحظة كون العالم الاجتماعي يفرض قيوداً، تحدد على الفكر الأكثر صفاء أي فكر العلماء والفنانين والكتاب، أن يكون آتياً من طرف يريد للأمور أن تنضج بسرعة، كما لو أن النزعة الحتمية التي يتهم علم الاجتماع باتباعها، كانت، كما حال الليبرالية أو الاشتراكية أو غيرهما من التفضيلات، الجمالية أو السياسية، قضية إيمان أو حتى مسألة يتوجب أن تقابل بموقف محدد للدفاع عنها أو لمناوأتها. كما لو أن الالتزام العلمي هو، في حالة علم الاجتماع، موقف متخذ مستوحى من مشاعر النفور المحسوسة ضد “مجمل المسائل الثقافية الصالحة “كما ضد الفردانية والحرية، وضد الهرطقة والتخريب والاختلاف والانشقاق، والانفتاح والتنوع، وهكذا إلى آخر هذه الثنائيات”.
ويختم بورديو هذه التأملات معترفاً بأنه غالباً ما حدث له “أمام ضروب التجديد الفريسية التي تتصدى لتنديداتي الخاصة، أن ندمت على كوني لم أحذُ حذو مالارميه الذي إذ رفض أن يكون حراكه أمام الجمهور، مشتغلاً على التفكير الهرطوقي للنتاج التخييلي والإيمان الجماعي بمبدأ اللعب، عبر استنكافه عن إعلان هذا العدم الرئيسي إلا عبر وتيرة الرفض والإنكار المتواصلين. بيد أني أجد دائماً أن ليس في وسعي أن أحفظ أي سر لنفسي أو ألا أكشفه إلا بشكله الملغز كما كان مالارميه يفعل…”.