لم تتمكن ثريا التركي من تحديد سنة ولادة أبيها، وهي المهتمة كثيرا بإبقاء عائلتها حاضرة في روايتها لسيرة حياتها. كما أنها لا تعرف على وجه التحديد اليوم والشهر اللذين وُلدت هي فيهما. كان يمكن التغاضي عن ذكر ذلك، لولا رغبتها ونحن في الصفحة الأولى من الكتاب، في ذكر واقعة طريفة وهي، أنها ووالدها، أبصرا النور قبل صدور المرسوم الملكي، الذي بدأ معه تسجيل الولادات.
حدث ذلك في سنة 1962، وبالنظر إلى أن الكثير من المواطنين السعوديين لم يهتدوا إلى تواريخ ولاداتهم، كان على هؤلاء، حسب المرسوم، أن يُسجّلوا جميعا في الأول من شهر رجب (الهجري). وللطرافة نشرت ثريا التركي خبرا ورد في صحيفة «الشرق الأوسط»، عدد الثاني من فبراير/شباط 2022 جاء فيه: «يحتفل اليوم الأربعاء نحو 10 ملايين نسمة من السعوديين والسعوديّات بعيد ميلادهم».
العائلة حاضرة دائما في رواية ثريا لحياتها، الأب والأم والأخوات والأخ أحمد، وكذلك الأقرباء الآخرون الدائرون في فلك العائلة. وقد استمر هذا الاهتمام حتى في إقامتها في بلاد بعيدة أثناء دراستها، طفلة في لبنان، ثم في مصر، ثم في دراستها وإقامتها في بلدان العالم الأبعد، حيث درّست، بعد نيلها شهادة الدكتوراه في جامعات هارفارد وكاليفورنيا وجورج تاون وبنسلفانيا. لم تغفل عن ذكر تعلّقها بأي من العالمين، بلدها الذي غادرته، والبلدان الأخرى التي عملت وحققت مركزا مهما فيها. في ذلك تبدو لقارئ كتابها، كما لو أنها تمسك العصا من الوسط، مصرة على إبقاء التوازن قائما، مع أنها كانت على الدوام تعارض مشيئة الأهل في تقدّمها لتصير رائدة عربية في الأنثروبولوجيا، وبدأت ذلك منذ طفولتها راغبة في الخروج من المنزل، الممنوعة من مغادرته هي ومن هنّ مثلها.
في سنوات لاحقة تزوجت من زميل ألماني لها هو كلاوس كوخ، ما شكل صدمة لأهلها، ولم يُفد في قبوله منهم إشهاره إسلامه. هو نزاع طويل ذاك الذي كان يجري بين أهلها الذين يرجع أصلهم إلى عشائر العنيزة في نجد، لكنه لم يكن مريرا إلى حدّ بلوغ القطيعة معهم، لأنها حظيت على الدوام بمن يقف داعما لقراراتها، سواء من الأخ الذين يتوصل، بعد إلحاح، إلى إقناع الوالد صاحب الرأي الأخير، أو تأتي المساعدة على الإقناع من شخص مقرّب من الأهل. أما ما يمكن أن تمر به طامحة لغيره فلا بد أن عقبات أخرى كانت ستضاف إلى ما واجهته ثريا، حيث لم تكن الحاجة إلى تمويل التعلم مشكلة عندها، فالمال كان متوافرا على الدوام يؤمنه عمل الوالد مسؤولا كبيرا في وزارة المال السعودية.
وكما استطاعت ثريا التركي أن تبقي على التوازن بين طموحها وتقاليد أهلها، استطاعت أيضا أن توازن بين شرقيتها، بل سعوديتها، حيث ضغط التقاليد وتغلغلها في تفاصيل الحياة اليومية، وإعجابها بعادات الغرب وفتنته. لم تفلح فقط في البقاء في الوسط هنا وهناك، بل كان عليها أن تصنع معادلتها الخاصة، في أن تكون عربية خالصة وفي الوقت نفسه، محبّة للتقدّم عديد الأوجه في حياة الغربيين. رغم أن هناك أمورا تحدث قد تؤدي إلى الإحباط. ففيما كانت ترغب في العودة إلى السعودية لإفادة مواطنيها بما حصّلته في جامعات العالم الكبرى، وجدت أن الجامعة السعودية لم تستقبلها كما ينبغي، بل كان بعض المسؤولين فيها يضعون العراقيل في طريقها، لكي تفشل في تحقيق ما جاءت من أجله.
من مظاهر تلك الموازنة بين الثقافتين، وهي موازنة ستظل مستمرة في وعي الكاتبة، هو تجنبها الإفصاح عن حبها لزوجها الأول كلاوس كوخ، محوّلة ذلك إليه. لا تقول مثلا كنت أعشقه، بل أجرت ذلك على لسانه، كان يعشقني، مضيفة إلى ذلك كل ما يرد في لغة الشوق، وليس الشغف. لا أحسب أن رقابة الأهل ستكون حاضرة هنا أيضا لمراقبة ما يرد في تلك الصفحات، بل هي الحشمة على الأغلب، تلك التي لا يزيل أثرّها الباقي، النجاح في العمل على التحرّر الشخصي. حتى بعد أن لقي كلاوس حتفه في حادثة سقوط مأساوية، كان رثاؤها له اعترافا بكفاءته وثقافته ونبل أخلاقه.
على كل حال لم تشأ ثريا التركي أن تقف، في ما ترويه، عند من كان يمكن أن تشعر نحوهم بالسوء أو الكراهية، فمَن صادفتهم في مسيرتها كانوا جميعا متعاطفين معها ومساندين لها. وهي، إعلانا عن محبّتها لمن فاتها ذكرهم في سياق الكتاب خصصت صفحاته الأخيرة لإعلان امتنانها لهم.
الكتاب الذي لا يحيد عن سعي كاتبته إلى المضي قدما في الدرس والتعرف يمكن اعتباره شهادة حية على أوضاع التعليم في المملكة العربية السعودية، والبلدان الأخرى التي قصدها المواطنون السعوديون للتعلم. هذه البلدان هي لبنان، ومصر خصوصا، التي امتد أثر طريقة العيش فيها إلى وجوه واسعة من طرق العيش السعودي، ثم لإجراء المقارنات الكثيرة بين الجامعات هنا، في الشرق، وجامعات أوروبا وأمريكا.
*«حياتي كما عشتها» لثريا التركي – ذكريات امرأة سعودية من كنيزة إلى كاليفورنيا» صدر عن دار الكرمة في 244 صفحة- سنة 2024.