زيارة في الاستديو هي سلسلة من الحوارات مع شاغلين وشاغلات في الشأن الفني والأدبي والثقافي بأطيافه الواسعة، من سوريا والدول العربية والشتات العربي، يحتل فيها سؤال المكان أو مُختبَر عمل الفنان دوراً محورياً، إلى جانب الإضاءة على محاور أخرى من عمله وسيرته الفنية.
*****
بينَ التَّوثيقِ والتَّخييلِ، استطاعتْ أن تؤسّسَ خطاباً أدبيّاً يحفِرُ في البُنى العميقةِ للمجتمعِ والسلطةِ والذاكرةِ الفرديّةِ والجمعيّةِ، تحمِلُ همَّ الكتابةِ كفعلِ مقاومةٍ، كبحثٍ شاقٍّ عن المعنى والهويةِ والمنفى. تكتبُ روزا ياسين حسن لتنبشَ الذاكرةَ السوريّةَ من تحتَ الركامِ، وتمنحَها صوتاً، توثّقُ لتُعيدَ للضحايا أسماءَهُم-ن، ولتهِبَ الذاكرةَ حقَّها في النجاةِ، في زمنٍ يتنازعُ فيه الخطابُ الطائفيُّ مع سرديّاتِ المنتصرِ، وفي لحظةٍ تترنّحُ فيها الحقيقةُ بين المحوِ والتشويهِ، تقفُ شاهِدةً لا تهادنُ، وكاتبةً اختارت أن تسكنَ منطقةَ الجمر.
تنتمي روزا إلى طلائع الكاتباتِ اللواتي يخُضنَ الكتابةَ من تخومِ الانكسارِ، حيث تتنازعُهنَّ هوياتٌ متصدّعةٌ، معلّقةٌ بين منفى لا يصيرُ وطناً، ووطنٍ تهاوى في الذاكرةِ والواقعِ معاً. تكتبُ من هوّةٍ في الذاتِ والتاريخِ، من شقٍّ وجوديٍّ يفيضُ بالأسئلةِ، ويتوهّجُ بالوعي والوجعِ المدّخر..
تؤمنُ أن الكتابةَ مسؤوليّةٌ أخلاقيّةٌ قبلَ أن تكونَ وظيفة أدبيّة، وأنّ الحرفَ قد يكونُ سلاحاً في وجهِ العتمةِ والدمارِ.
تتنقلُ بين الروايةِ والمقالةِ والشهادات كما تتنقلُ بين الجغرافيّات، دون أن تفقدَ بوصلتَها أو تميلَ عن موقفِها الأخلاقيِّ. في رواياتِها كما في مقالاتِها، حضورٌ كثيفٌ للأسئلةِ الوجوديّةِ، للمكانِ كذاكرةٍ حيّةٍ، وللمنفى كمرآةٍ ترى من خلالها هشاشتَنا كأفرادٍ وجماعاتٍ. في هذا الجزء من سلسلةِ زيارة في الاستديو، حاورنا الروائيةَ السوريّةَ روزا ياسين حسن عن الوطنِ والأدبِ والمنفى.
كيف أثّرت السياسة على تشكيل مشروعك الأدبي منذ البداية؟ هل كانت الكتابة بالنسبة لكِ فعلًا مقاوماً للإيديولوجيا السائدة أم أنَّها كانت سعياً لفهم الذات ضمن سياق سياسي معين؟ هل ترين أنّ الأدب يمتلك القدرة على التأثير بالأنظمة القمعية؟
لستُ سياسيّةً بالمعنى الحزبيّ أو التنظيميّ يا صديقتي، لكنّني بالتأكيد مُسيَّسة. نشأتُ في بيتٍ مُشبَعٍ بالوعيِ السياسيّ، مَطبوع به في العُمق، السياسةُ بالنسبة له تَنسابُ في مفاصلِ الحياةِ وتفاصيلِها، حاضرةً في الرؤيةِ والموقف، في نمطِ العيشِ وأساليبِ التفكير، حتى تحوَّلت إلى جزءٍ لا يتجزّأ من الوجدانِ والوعي. كما أرى دوماً: في بلادٍ كبلادِنا، لا ينجو شيءٌ من السياسة؛ إذ تَلُفّك من الذاتِ إلى الفكرة، ومن الحكايةِ إلى اللغة، تَكتنِف وعيَك وروحَك وقلقَك اليوميّ، وتَخترقُك دون استئذان.
الكتابة، بالنسبة لي، بحثٌ دائم، سؤالٌ مفتوح. أكتبُ بدافعِ الهَوَس، بدافعِ الحاجةِ للقول، للحَفْرِ في الذاكرة، للنجاةِ الشخصيّةِ أحياناً. لكنّني في لحظاتٍ كثيرةٍ كنتُ أتساءل: لماذا أكتب إذا لم أستطع أن أُوقِف آلةَ القتل؟ إذا لم أستطع أن أُسقِط طاغية؟ هل أكتب بدافعِ العبث؟ أم لأخلقَ حياةً موازيةً، أكثرَ حريةً وعدالةً من هذه الحياةِ الرماديّةِ التي نعيشُها؟
وظيفةُ الأدب، حسبَ إيماني، ليست في تقديمِ أجوبة، وإنّما في طرحِ الأسئلة. على الكاتب-ة أن يعيشَ تجارِبَ شخصيّاته، أن يَتقمّصها، أن يَحلُم بها، وإلّا جاء الأدبُ مُزيَّفاً خالياً من الصدق. لا أكتب لأنقذ، بل لأمنحَ صوتًا للهامش، للمُنفيّين من الحكاية، للمقموعين الذين لا يُدوِّن التاريخُ أسماءَهم-هنّ. لنقل: أكتب لأُشارِك في كتابةِ تاريخٍ مُضادٍّ للتاريخِ الرسميّ الذي يكتبه الأقوى، المُنتصِر والمُستبدّ، حسبَ رؤيته ومَنطقه في قَسْرِ التاريخِ وتعليبِه.
أمّا تأثيرُ الأدب على الأنظمةِ القمعيّةِ فقد لا يكونُ مباشراً، لكنّه عميقٌ وبطيءٌ، قادرٌ على خَلخَلةِ البُنى وتشكيلِ الوعي. نعم، أُؤمِن بوجودِ وظيفةٍ أخلاقيّةٍ للكاتب-ة، تَنحازُ للضعفاء، وتَزرعُ الشكّ في يقينِ القامع، وتُقاوِمُ النسيان.
في ظلّ التحوّلات السياسية والاجتماعية التي عصفت بسوريا، كيف تنظرين إلى راهن الأدب السوري ومآلاته؟ وهل ترين إمكانية أن يتحرر من النخبوية ليخاطب جمهوراً أوسع؟ وكيف يمكن للأدب أن ينخرط في مساءلة القضايا الوجودية والإنسانية دون أن يبقى حكراً على النخبة؟
نحن كشُعوبِ هذهِ المنطقةِ، لم تحتلِّ الثقافةُ حيّزاً واسعاً في حياتنا منذ زمنٍ طويلٍ، لهذا فإنَّ تأثيرها بقي محدوداً وضعيفاً. شعوبٌ كانت منشغلة بالحروب، بالتجهيلِ والتفقيرِ. اليوم، إذا أردتِ أن تمكّني الأدبَ من الانخراطِ في الوعي الجمعيِّ، فأنتِ بحاجةٍ إلى إعادة ترميمِ المجتمعِ أولًا. لدينا ملايينُ الأطفالِ السوريين الذين عاشوا خلال السنوات الماضية بلا تعليمٍ حقيقيٍّ، أو عاشوا التهجيرَ، أو الحصارَ، أو الاقتلاعَ من الجذورِ. الناسُ بالكادِ تعيش، الثقافةُ باتتْ ترفاً، والتعليمُ رفاهيةٌ في ظلِّ العجزِ عن النجاةِ والعيشِ.
مع ذلك، إن ألقينا نظرةً على المشهدِ الإبداعيِّ السوريِّ خلال الخمسين سنةً الأخيرةِ، سنلاحظُ أنه شهد نقلاتٍ مهولةً بكل ما للكلمةِ من معنىٍ. فدائماً وعلى مستوى العالمِ، تولد التحولاتُ الأدبيةُ الكبرى من هزاتٍ عظيمة: الحروبِ، الثوراتِ، المجاعاتِ، الكوارث الطبيعية والسياسية؛ كانت دائماً المحرّكَ الأهمَّ لنشوءِ مدارسَ أدبيةٍ جديدةٍ، من الرومانسيةِ إلى الواقعيةِ، إلى الدادائيةِ والسورياليةِ، فالوجوديةِ، فالنسوية، وحتّى الواقعية السحريةِ.
في سوريا شهدنا ذلك أيضاً. في أواخرِ التسعينياتِ وبداياتِ الألفيةِ، بدأت تظهرُ موجةٌ جديدةٌ هي «أدبُ السجونِ»، التي لم تكن موجودةً بهذا الشكلِ سابقاً. صحيحٌ أن بعضَ الكتّابِ كتبوا عن تجاربهم، كنبيل سليمان وهاني الراهب، لكنها كانت كتاباتٍ فرديّةً، أمّا في تلك المرحلة فقد بدأنا نرى تياراً حقيقياً متماسكاً.
في الوقتِ نفسهِ، برزت أصواتٌ نسائيةٌ جديدةٌ، كأننا نشهد ولادةَ «موجةِ كتابةٍ نسائيةٍ» سوريةٍ، ولا أقول نسويةً. كتبت النساءُ عن مواضيعَ كانت محرّمةً سابقاً، من الحبِّ والعلاقاتِ، إلى مسائلَ وجوديةٍ وفكريةٍ، وكسّرن التابوهاتِ الاجتماعيةِ، والدينيةِ، والسياسيةِ. لم يعد هناك محظورٌ يقف في وجه القلمِ النسائيِّ. بالطبع، لقي هذا الطرح هجوماً عنيفاً، أذكر أننا كنا نشتم بالاسمِ في الصحفِ فقط لأنّنا كتبنا عن المحرّماتِ.
عموماً، لا أحبذ استخدامَ مصطلحِ «النخبةِ الثقافيةِ»، أفضّل الحديثَ عن «العاملينَ في الشأنِ الثقافيِّ»، لكن مهما كانت التسميةُ، فإن غيابَ الأثرِ الحقيقيِّ لهؤلاء في المجتمعِ كان فادحاً. هذا العجزُ عن التأثيرِ بدا حتى قبل اندلاعِ الثورةِ، وتحديداً منذ إعلانِ دمشقَ، حيث بدا واضحاً ضعفُ قدرةِ الفاعلينَ الثقافيينَ على التواصلِ مع الشارعِ أو تحريكه.
ثم جاءت الثورةُ السوريةُ، كانت الهزّةَ الكبرى. انقساماً سياسياً، زلزالًا عمودياً هزّ بنيةَ المجتمعِ السوريِّ من الأعلى إلى الأسفلِ. كل السوريين تأثروا بها، بغضّ النظر عن مواقفهم. لم يعد ممكنًا العودةُ إلى ما قبل آذار 2011. تغيّرت سوريا، وتغيّر الأدب السوري معها. تغيّر المعنى، وتغيّرت التقنية، وتبدّل الشكل. في الأدبِ، يخلق المعنى الجديد شكلًا جديداً، والعكس صحيح. لا يمكن التعبير عن واقعٍ جديدٍ بأدواتٍ قديمةٍ، هذا ما حصل، في البداية بعد الثورة سبقت فداحةُ الحدثِ قدرةَ الكتابةِ على ملاحقته، لكن لاحقاً بدأت تظهر تقنياتٌ جديدةٌ، وخطاباتٌ جديدةٌ، وشخصياتٌ ورؤى سرديةٌ جديدةٌ.
ثم جاءت الهجراتُ الجماعيةُ، تجربةُ المنفى التي يعيشها نصف السوريين اليوم، ومنهم المثقفون-ات والكتّاب والكاتبات، هي واحدةٌ من أعنفِ الصدماتِ النفسيةِ التي عاشتها وتعيشها البشريةُ، تجربةٌ قاسيةٌ، لكنّها أيضاً أعادت تشكيلَ الخيالِ، اللغةِ، والوعيَ بالذاتِ وبالآخرِ.
كيف أثّر المكان، في الوطن والمنفى، في تشكيل هويتك الأدبيّة وتوجيه مسار كتاباتك؟ هل ترين أنَّ الجغرافيا الثقافية التي نشأتِ فيها رسّخت ثيمات بعينها في أعمالك، أم أنّ تجربة الاغتراب أحدثت تحوّلًا جذريّاً أعاد تشكيل رؤيتك وحرّرك من قيود الجغرافيا الأصلية نحو أفق تعبيري أوسع؟
المنفى كان التجربة الأقسى في حياتي. رغم قسوة ما عشتُه في سوريا، إلا أنَّ المنفى بدَّل روحي، خلخل داخلي، واقتلعني من جذوري لأُلْقى في أرضٍ لا لغة لي فيها، ولا ذاكرة مشتركة تربطني بها. تحوّلتُ إلى كائنٍ قادمٍ من العدم، محمَّلةً بماضٍ لا يعرفه أحد، وبذاكرة ناجية تُحاصرُني، تؤلمني، وتجلدني كلّ يوم. شعرتُ بأنني أسكن الماضي لا الحاضر، أفيق على صور الذاكرة وهي تحتلّني، البيت، السرير، الغطاء، التفاصيل… كلها هنا، لكنّي وحدي غريبة.
في المنفى، طفت على السطح كل الترومات القديمة: الحرب، الثورة، الخوف، الاستدعاءات الأمنية. كأنَّ المنفى هو لحظة التعرّي التام، لحظة الانكشاف الكامل. تفجّرت داخلي آلامٌ مدفونة، حتى بتُّ أشعر أنَّ التحدّي ليس فقط في النجاة، وإنّما في الهروب من سجن الذاكرة نفسه، وإلا فالمصير هو الانهيار، وربما الانتحار، والانتحار لا يكون دوماً فيزيائيّاً. معظمنا ما زال يعيش داخل هذا السجن، أو ميتٌ على قيد الحياة. أنتَ هنا مضطرٌّ لإعادة تعريف البديهيّات، وبشرحها «للأغراب» أنت تعيدين سردها أولاً لنفسك. هل كانت بديهيّاتنا بالفعل بديهيّات؟! المنفى مرآةٌ للآخر كما هو مرآةٌ لنفسك. أنت هناك تعيدين تعريف نفسك واكتشافها كما تعيدين تعريف الآخر واكتشافه!
أثناء كتابتي بحثاً عن كرة الصوف، كنت أعيش كل لحظةٍ من آلام المنفى. الرواية كانت جسداً من الألم. انهارت بعدها، هكذا فعلت بي أيضاً رواية الذين مسّهم السحر، فقد كثّفت آلام الثورة بداخلي. ورغم أنني كتبت أعمالًا أشدّ قسوةً من حيث المضمون، إلا أنّ أثرها لم يكن مدمّراً بهذا الشكل حين كنت في الوطن. في المنفى الكتابة لا تُشفي، بل تُعرّي، تُفجّر، تُنزف.
هذه التجربة غيّرتني تماماً. روزا اليوم لا تشبه روزا قبل 12 عاماً. هذا التبدّل الجوهري انعكس بوضوح على أدواتي الأدبية: على اللغة، الجملة، البنية السرديّة، تناول الشخصيات، تقنيات السرد. روايتا بحثاً عن كرة الصوف وبين حبال الماء مختلفتان تقنيّاً كلياً عن حراس الهواء أو بروفا، شيءٌ ما تغيّر بداخلي، انقلابٌ في الرؤية، في الحساسية وفي كيفية التعبير. المنفى حالة وجوديّة تفرض شروطها على اللغة والفكر، وتحفر عميقاً في الروح والكتابة.
كيف تُقيّمين دور الأدب النسوي في المعركة الطويلة لتحرير المرأة في العالم العربي من قيود البُنى الاجتماعية والثقافية القامعة؟ وهل ترين أّنّ الأدب النسوي قادرٌ على أن يكون أداة حقيقية لزعزعة الخطابات السائدة والتصدي للإيديولوجيات التي تكبّل حرية المرأة؟
علينا أولًا أن نميّز بين الأدب النسائي والأدب النسويّ؛ فليس كل ما تكتبه النساء يُصنف تلقائيّاً كأدبٍ نِسْويّ، إذ قد تُنتج نصوص نسائيّة تُعيد إنتاج القيم الذكوريّة وتكرّسها. في المقابل، قد يكتب رجالٌ نصوصاً تحمل رؤى نسويّة عميقة. المسألة لا تتعلق بجنس الكاتب-ة، بل بجوهر الخطاب الذي يحمله النص، هل يناصر الهامش؟ هل يتصدّى للسلطة القامعة، أكان شكلها سياسيةً، دينية، اجتماعية، ثقافية؟
للأسف، الأدب النسويّ العربيّ والأعمال التي تُمثل بحق هذا التيار ما زالت قليلة، لكنّ تأثيرها، رغم قلّتها، عميق وممكن، لأنّها تنحاز للمتعدد، للهامش، للإنسان في هشاشته وفرادته. الفكر النسوي الحقيقي موقفٌ جذريٌّ مناهضٌ لكل أشكال الاستبداد والمطلق، مناصر للهوامش بكافة تجلياتها، أكانت عرقية أم طائفية أم إثنية أم طبقية أم إيديولوجية. من هنا تأتي أهمية شكل الخطاب لا مضمونه فقط. فأنت تطرحين أفكاراً نسوية بلغة إقصائية أو منتمية لمنطق السيطرة والقسر، وبهذا تعيدين إنتاج الفكر الذكوري وخطابه ولو ادّعيت العكس. الكلمات ليست حيادية، هي كائنات حيّة لها طاقة وروح. إذا استعرت خطاباً ملوّثاً لتبني به واقعاً جديداً، فنحن لم نغير شيئاً، بل بقينا ندور في مستنقع القيم ذاتها.
تجربتي الشخصية مع رواية حرّاس الهواء كانت مثالًا على ذلك؛ إذ تعرّضت لهجوم حاد حين سلّطت الضوء على خصوصيات ثقافية لمكوناتٍ اجتماعية في المجتمع السوري. وُصفت الرواية بأنها تهدد «الوحدة الوطنية»، كما لو أن التعدد خيانة، أو كأن علينا جميعاً أن نكون نسخاً مماثلة كي نعتبر موحّدين! بينما الحقيقة أنَّ الوحدة الحقيقية تُبنى على الاعتراف بالاختلاف وصون الخصوصيات الثقافيّة والاجتماعيّة والبيئيّة للمجموعات المختلفة في الوطن الواحد.
نعم، الأدب النسوي قادر على زعزعة الخطابات السائدة. صحيح أنّ التغيير بطيء وتراكمّي، لكنّه يحفر عميقاً. كانت هذه تجربتي التي مررتُ بها خلال تدريسي في ألمانيا في مركز الاستشراق بجامعة هامبورغ، حين طرحت روايات نسويّة عربية تناولت الكتابة الإيروتيكية مثلًا، أو تناولت قضايا تكسر «الستيريوتايب» أو الأحكام المسبقة المعلّبة في ذهن المركز الأبيض تجاه الهوامش الملوّنة، إن كانت قضايا ومواقف سياسية أم ثقافية، واجهت موجةً من الرفض والاتهامات ومحاولات إسكات. لكنّ هذا الرفض ذاته دليلٌ على أنَّ شيئاً ما قد اهتز. الصدمة الأولى تتحول مع الزمن إلى وعيٍ جديد، والوعي لا يعود إلى الوراء، حتّى لو تأخر تحققه أي انتصاره. بالتالي، لا بد من منابر تعبّر عن هذا الأدب، حتّى وإن كانت البداية محفوفة بالخسائر الجسيمة. دائماً، هناك من يدفع الثمن ليفتح الباب لآخرين، والثقافة الحقيقية برأيي لا تتأسّس، ومن ثمّ تنمو إلا حين يجرؤ أحدهم أو إحداهنّ على كسر الصمت.
إلى جانب إسهاماتك الأدبية، تشتهرين بمشاركاتك الفاعلة في الصحافة الثقافية والكتابة السياسية. كيف ترين تكامل الكتابة الأدبية مع الكتابة الصحفية من حيث التأثير والهدف؟ وهل تظنين أن الكتابة الأدبية تملك القدرة الأكبر على التأثير في القضايا الكبرى والهويات الثقافية، أم أن للكتابة الصحفية دوراً أكثر فعالية في تحفيز الوعي الجماعي وفتح النقاشات السياسية والاجتماعية؟
لا أعتبرُ نفسي صحفيّة بالمعنى المهنيّ، أنا أكتبُ «مقالةَ رأيٍ»، وهي نمطٌ من التعبير أُمارسُه حين أشعرُ بواجبٍ داخليٍّ للبوحِ بموقفي أو لتسجيلِ شهادة. يحدثُ ذلك عندما يمرُّ حدثٌ جللٌ، يهزُّني أو أشعرُ أنَّه يفرِض عليَّ قولًا لا يحتملُ التأجيل. في تلك اللحظاتِ أُعبِّرُ من موقعي ككاتبةٍ، لا كصحفيّة تُتابعُ الحدث وتُعقِّبُ عليه بشكلٍ آنيٍّ ودائم.
في مقالاتي المنشورةِ ثَمّةَ مسارانِ واضحانِ: الأوّلُ بحثيٌّ، كتبتُ فيه كثيراً ضمن الحقولِ النسويّةِ والاجتماعيّةِ والأنثروبولوجيّةِ، مثل نصّي الأخيرِ عن النسويّةِ في العالمِ الثالثِ أتيتُ ولم أجدكِ، أو بحثي عن علاقةِ الإنسانِ بالأمكنة وتأثيرِها في الذاكرةِ والانتماء، الذي نُشِرَ بعد خمسةَ عشرَ سنةً من منعي من الكتابةِ داخلَ سوريَا في جريدةِ المُدُنِ.
أمّا المسارُ الثاني فينتمي إلى ما يمكنُ تسميتُه «الكتابة الصحفيّة الأدبيّة» التي تمزجُ بين السردِ الشخصيِّ، والتوثيقِ، والطَّرحِ الثقافيِّ. هنا أقتربُ من النمط الجديد من الصحافة الذي يتقاطعُ مع العملِ الإبداعيِّ، حيث تُقدَّمُ الفكرة عبر شخصيّة، وتُروى الحكايةُ من خلال زاويةٍ ذاتيّةٍ، لكنّها تنفتحُ على الشأنِ العامِّ. أجدُ في هذا الشكلِ ما يُشبهُني ويُعبِّرُ عن توتّري الدائم بين الأدب والصحافةِ، بين اللحظةِ العابرة والكتابة الباقية.
لكنّني في النهايةِ، أكتبُ كرِوائيّة، حتى حين أتناولُ أحداثاً سياسيّةً أو اجتماعيّةً، أكتبُ بمنطقِ السَّردِ، لا بمنطقِ الخبرِ. لهذا أرفضُ تصنيفي كصحفيّة، رغم حضوري المتكرِّرِ في المساحاتِ الإعلاميّة.
في روايتك «بحثاً عن كرة الصّوف» يظهر بشكلٍ جلي التساؤل عن معنى الانتماء في عالم متصدّع، حيثُ تتداخل الجغرافيا بالفكر وتتشابك الهوية بالذاكرة. كيف ترين تأثير التمزّق بين الهويات الثقافيّة والدينيّة على الأفراد في زمن الانكسارات الكبرى؟ وهل يمكن أن يكون هذا التفكك تمثيلاً رمزياً لما يعايشه الإنسان السوري في المرحلة الراهنة بعد انتصار الثورة؟
حين تخرجين من جغرافيّتكِ وتدخلين فضاءً آخرَ مُحمّلًا بإرثٍ استشراقيٍّ تجاهكِ، تُجبَرين على شرح نفسكِ للآخر، وتُفاجئين أنّكِ – وأنتِ تشرحين – تُعيدين اكتشاف نفسكِ. تنظرين في مرآةِ الآخر، فترين ملامحكِ للمرة الأولى، ليس كما اعتدتها، إنما كما يُساءُ فهمُها أو يُؤطَّرُ لها.
هنا تبدأ إعادة تعريف الذات: مَن أنا؟ ما الذي يُكوِّنُني؟ هل ما ظننتهُ يقيناً هو حقّاً كذلك؟ المنفى يُحرّض كلّ هذه الأسئلة، كتأمّلاتٍ فكريّة وشرطِ وجود. فحتّى الثقافة التي نشأتِ فيها، تَفهمينها خارج الوطن أكثر، لأنكِ حينها تنظرين إليها من بعد، وتُفكّكين تفاصيلها التي لم تكن مرئيّة وأنتِ داخل الدائرة.
هذا التّمَزُّق لا يُصيب فقط الهويّة الثقافيّة، بل يُربك مساراتِ الكتابة أيضاً. تصبح الكتابة وسيلة لإعادة صياغة الذات. في لحظةٍ ما، تكتشفين أنّ عليكِ إعادة تعريف كلّ شيء اللغة، الانتماء، الطفولة، وحتى الوطن ذاته. هذا ما فعله المنفى بي، وهو ما جعلني أُعيد صياغة فهمي لهويّتي وثقافتي، بل وكتابتي أيضاً.
التحوّلات الكبرى التي شهدتها سوريا لم تُفضِ إلى يقظةٍ موحَّدةٍ، بل كشفت عن هشاشةِ العلاقات التي تربط الناس ببعضهم. الجدران التي رسّخها نظامُ الأسد بين المكوّنات السورية كانت متقنةً، وحين انهارت بفعل الثورة، لم تُظهر واقعاً مختلفاً، بل أماطت اللثامَ عن عمق التشظّي والتباعد.
لحظةُ السقوط لم تحمل النّور كما توقّعنا وحلمنا، لكنّها أماطت اللثامَ عن تَشَظّياتٍ محفورةٍ عميقاً وتباعداتٍ وسوءِ فهم، وضعفِ ثقة، والخوف ربّما من مشاريع انقسامٍ لا أتمناها أبداً.
في الداخل كما في الخارج، توالت الاكتشافاتُ القاسية. المفاهيم التي لطالما بدت منارةً للعدالة، كالديمقراطيّة وحقوقِ الإنسان، خضعت هي الأخرى لتأويلات السّوق السياسيّة في الغرب، وعكست وجوهاً متغايرةً بحسب المصالح. هذا الإدراكُ دفعَ إلى تأمّلِ الحرّية من جديد، والتعامل معها كقيمةٍ تُنتزع بالوعي والعمل، لا كعطايا يُروَّج لها.
في رواية «حرّاس الهواء» لا تقدّمين بطلة ولا ضحيّة، بل إنسانة تتقاطع فيها كل ظلال الهزيمة، والحنين، والجسد، والسياسة. هل تعتقدين أنّ الحكاية التي لا تنقذ أحداً، ولا تغير مصيراً، قادرة على أن تُحرّر؟ وهل كنتِ تكتبين لتقولي الحقيقة، أم لتجعلي الألم مستساغاً؟
سؤالك يلامسُ صميمَ ما يشغلني دوماً في الكتابة: هل الحكاية التي لا تُنقذُ أحداً قادرةٌ على أن تُحرّر؟ في رأيي، وظيفة الرواية لا تكمن في تقديم الإجابات، بل في طرح الأسئلة التي تُقلقُ القارئ وتضعه في مواجهة ذاته. لستُ معنيّةً بإصدار الأحكام أو التوجيه الأخلاقيّ، أنا أكتب لأُتيح للشخصيات أن تُعرّف عن نفسها، أن تتكلمَ وتُبرّر اختياراتها، وتُدافع عن تجاربها أمام قارئٍ هو وحده من يملك سلطة التصديق أو الرّفض.
في حرّاس الهواء كما في العديد من رواياتي، اعتمدتُ تقنية تعدّد الأصوات، حيث تُروى الحكاية عبر ألسنةٍ متباينة، تُفكّك الشخصية من زوايا مختلفة وتُضيء هشاشتها وتناقضاتها، دون سلطةٍ أُحاديّة تُملي المعنى. تركتُ لكل شخصية مِنبرها، لتقف عليه وتروي سرديّتها من موقع الضّعف، من مكانها كضحيّة، سواء كانت اجتماعية، سياسية، دينيّة أو ثقافية. هذا التعدّد في جوهره تجسيدٌ لِديمقراطية الرواية، التي إن فقدت تعدديّتها تحوّلت إلى نصٍّ استبداديّ.
أنا مُنحازةٌ للضحايا، تلك الأرواح التي هُشّمت بصمتٍ تُحرّضني على الكتابة، لا أجد نفسي في سرديّات المستبدين، ولا يُغريني تفكيك الطغاة. ما يوقظني للكتابة هو إنسانٌ يحمل صليبَه ويسير إلى جُلجلته، كما فعلنا جميعاً بدرجاتٍ متفاوتة. ربما لهذا السبب تتكرّر في رواياتي ظلالُ الألم كمصيرٍ وجوديّ يختبر به الإنسان هشاشته وجدواه وقيمه.
الألم في كتابتي مُحرّكٌ داخليّ، وموقفٌ أخلاقيّ وإنسانيّ. لا أُجمّله، ولا أُقدّمه بغلافٍ من الزّينة، بل أتركه يتجلّى كما هو، عبر اللّغة التي تحمله وتمنحه كياناً قابلًا للفهم والإنصات. أُؤمن أن الكتابة فعلُ تمرّد، وذاكرةٌ بديلة للمقصيين، ومحاولةٌ لتثبيت سرديّة من لا يُسمَح لهم عادةً أن يكتبوا التاريخ. لهذا، حين أكتب لا أستسيغ الألم بقدر ما أسعى لتظهيره بعمق، في لغةٍ تعترفُ بوجعه وتمنحه شرعيّة أن يُروى.
في «الذين مسّهم السحر»، يظهر السحر كلعنة جماعية حاقت بالسوريين الذين استفاقوا على واقع مقلوب، متشظٍ، لا يُشفى من أثره. تتناثر الحكايات كما البلاد، ويتحوّل السرد إلى محاولة للقبض على المعنى وسط الركام. هل كانت هذه البنية الروائية المتفككة، بتشظّي حكاياتها وتداخل أزمنتها وتنافر أمكنتها، استجابة فنية ووجودية لواقع من الصعب احتوائه؟ لوطن لا يحتمل الحب الكامل ولا الكراهية الكاملة، وهل تظنين أن الأدب، في مثل هذا السياق، قادر على ترميم ما تفجّر، أم أصيب بالمسّ أيضاً؟
مفهومُ «السحر» هنا لا يعني بالضرورة النفي أو الإثبات، ولا يختزل إلى خيرٍ أو شرٍّ، هو لحظةُ التغييرِ العميقِ التي لا رجعةَ بعدها، حيث يُمسُّ الإنسانُ بلحظةِ تحولٍ كبرى تغيّرُ من كيانهِ وأثرهُ، فلا يعود كما كانَ أبداً.
في رأيي الشخصيِّ، هو قابلٌ للتطورِ مع الزمنِ، أعتقدُ أنَّ الكتابةَ تخرجُ من وعي الكاتبِ، وفي أحيان كثيرة يكتشفُ الكاتبُ حين يراجعُ ما كتبَ أنَّ نصوصَهُ كانت تحمل في طيّاتها رؤىً وأفكاراً عميقةً، قد تبدو مخيفةً أحياناً. على سبيل المثال، في روايتي حراس الهواء تحدثت عن مجموعةٍ من طالبي اللجوءِ إلى السفارةِ الكنديةِ في دمشق، وشخصيةٍ محوريةٍ كانت تشبهني بشدةٍ، إذ بعد خمس سنواتٍ من نشر الرواية وجدت نفسي في مكانها، لاجئةً، وهذا أمرٌ لم يكن يخطر لي في عامِ 2009، لكن هذه هي لحظةُ «السحر»، ذلك التغييرُ الذي لا رجعةَ عنه.
أما روايتي الذين مسّهم السحر فقد كتبتها بعد الثورة السورية، بين عامي 2015 و2016، حين كانت ملامح سوريا تتبدّل بشكلٍ عميقٍ، وشعرت رغم غموض الأحداث آنذاك أن سوريا لن تعود إلى ما كانت عليه، وأن هذه اللحظة الحاسمة محمّلةٌ بالتغييرِ الجذريِّ. لم يكن ذلك فقط شعورَ المشاركين في الثورة، بل شعورٌ يطال المجتمع السوري بأسره، بكل طوائفه وأطيافه، إذ كانت هزةٌ كبرى في تاريخ البلاد.
هل نجت الرواية السورية من هذا السحر؟ أعتقدُ الجوابَ بالنفي، فقد تغيّر الأدب السوري كما تغيّرت مجتمعاته، فلم تعد الرواية السورية كما قبل الثورة، لا من حيث الموضوعات التي تناولتها ولا من حيث ملامحها الفنية، حتى وإن لم يتناول بعض الكتاب الثورة بشكلٍ مباشرٍ، فإن لحظةَ التغييرِ هذه متجذّرةٌ في كلّ ما كتبوه، سواءً بالإيجاب أو السلب.
هل بإمكان الأدب أن يصلح الشروخ التي أحدثتها هذه اللحظة؟ نعم، ربما من خلال تراكم الأصوات المتنوعة، قد تكون متناقضةً أو حتى متعارضةً، لكن عبر الزمن من الممكن أن يُفضي هذا التراكم إلى فهمٍ أعمقَ للآخر وربما إلى تغييرٍ ما. تأثير الأدب تراكمّيٌّ يمتد عبر الأجيال، قد تقرأه أجيالٌ لاحقةٌ ولربّما تستوعب ما غاب عن جيلنا.
الكارثة الحقيقية باعتقادي هي الامتناع عن الكتابة، لأن ذلك يعني فقدان لحظةٍ تاريخيةٍ حيّةٍ لتوثيق الحكاية وهي محمّلةٌ برائحةِ الدمِ والبارود. الانتظار حتى تهدأ الأمور وتبدأ «فترة الكمون» هو خطأ برأيي، لأن الرواية التي ستُكتب لاحقاً ستكون مختلفةً تماماً، أهدأ وأكثر قدرةً على رؤية ما حدث بتروٍ وعقلانيةٍ لكنها تفتقر الشغفَ والحرارة التي يولّدها الحدثُ نفسه. إذاً النوعان أو النصّان مهمان: القريب والبعيد زمانياً وانفعالياً. الكتابة في زمن الحدث مشحونةٌ بالعواطفِ وبالجنونِ الداخليِّ، هذه العواطف المركّبة الشائكة تصنع من النص إبداعاً فريداً.
إن الطريقة التي نكتب بها، بمعنى كيفية صياغتنا للنص، لا تقل أهميةً عن موضوعه، فالأسلوبُ وحالةُ الكاتب النفسية والاجتماعية ينسجان جوهر النص. في الذين مسّهم السحر لم أخض في تحليلٍ سياسيٍّ مباشرٍ، بل رويت تجارب الناس وحيواتهم في ذلك الزمان، بالرغم من أن الرواية محمّلةٌ بمعانٍ ودلالاتٍ، فإنها تسرد حكايات الأفراد من منظوراتهم الخاصة، ما يجعل الرواية باعتقادي نابضةً بالحياة وبملامح الواقع المركّب، وفي النهاية ليس إلا القارئ-ة أي المتلقّي-ة هو من يقرّر ذلك.
«بين حبال الماء» تبدو رحلة تموز بحثاً عن الخلاص، لكنّها تنفتحُ على علاقة الإنسان بالمكان والذاكرة، وعلى سطوة الماضي المشحون بالحروب والدّمار. فهل كان تموز، في جوهر رحلته، عالقاً في أسر ذاته وذكرياته؟ وهل تتجسد مأساة الإنسان في انشداده الحتمي إلى ماضٍ يحاصر كلّ محاولة للفكاك منه، ويعيده إلى نقطة البدء؟
شخصيةُ تموز تمثّل شابّاً مسكوناً بحلمِ السينما، يتأرجحُ بين الواقعِ والخيالِ، يبحثُ عن معنى في عالمٍ يوشكُ أن ينهار، يحملُ مشروعَه الفنيّ بوصفه خلاصاً ذاتياً من عبثيّةِ الحياة، ويتجهُ إلى سوريا في لحظةٍ فارقةٍ، مدفوعاً برغبتِه في تحقيق هذا الحلم. تموز يعكسُ صورةَ جيلٍ وجدَ في الثورةِ أفقاً للهروب من ضيقِ الواقعِ وركوده، فانخرطَ فيها بدافعٍ ذاتيٍّ وجوديٍّ، قبل أن يصطدمَ بجدارِ الواقعِ وعنفه، على الرّغمِ من الخساراتِ والانكساراتِ، تبقى جذوةُ الحلمِ متقدةً فيه، في إصرارٍ يشبه تمسّكَ الحالمينَ بالحياة حتّى حين يعجزون عن تغييرها، أو تحقيق حلمهم.
في ظلّ ما يمر ّبه الوطن من محاولات لتفتيت ذاكرته الجماعيّة، كيف يمكن للثوار أن يحافظوا على نقاء حلمهم بالحرية والكرامة في وجه التآكل الذي يطال هذا الحلم من الداخل، سواء عبر محاولات استبدال قضيّتهم الكبرى بصراعات طائفية أو عبر الاستسلام للندوب النفسية والتاريخية التي خلفتها آلة القمع؟ وهل يمكن للذاكرة التي تشوهها الأنظمة والحروب أن تعيد بناء نفسها على أساس من التوحّد والتضامن؟
برأيي، الثورةُ السوريةُ الحقيقيةُ تُعرَفُ بمن خرجَ من أجلِ قيمِ الحريةِ والكرامةِ والديمقراطية، هؤلاءِ يظلون أوفياءَ لتلك القيمِ ما داموا أحياءً. أمّا من خرجَ تحت شعاراتٍ طائفيةٍ، معترضاً على «علويّةِ» النظامِ لا على استبداده، فذاك ليس ثائراً، إنّه أسيرُ أحقادٍ مذهبيّةٍ وعمى سياسيّ.
الثائرُ الحقيقيُّ يناهضُ منطقَ الاستبدادِ ذاته، ولا يسعى لاستبدالِ ديكتاتورٍ بآخرَ، مهما كانت طائفةُ المستبدّ. الثورةُ التي عرفتها، التي أومنُ بها، كانت حين خرجَ السنّيُّ والدرزيُّ والمسيحيُّ والعلويُّ وغيرهم كتفاً إلى كتفٍ، يهتفون بصوتٍ واحدٍ، هذا المشهدُ هو جوهرُ الثورةِ، وما عداه من تحريفاتٍ لا يعدو أن يكونَ ثورةً مضادةً أو استثماراً سياسيّاً للحظةٍ شعبيّةٍ أصيلةٍ، أو استغلالًا لها لمطامحَ شخصيةٍ.
عندما وصلَ أمراءُ الحربِ إلى إدلبَ، ورفعت أعلامُ الثورةِ هناك، عوقب أصحابُها، ومن نادى بالديمقراطية حوسب. فهل هذه القيمُ تناسبُ من استثمرَ الثورة؟ طبعاً لا. الحريةُ والديمقراطيةُ والكرامةُ تُناقضُ بنيانَ أمراءِ الحربِ وتُهدّدُه.
لذلك وباختصارٍ أنا أنزّهُ ثورةَ الحريةِ عن كلّ ما لحقَ بها من تشوّهاتٍ لاحقة. لا أرى اليوم فيما يُطرحُ من شعاراتٍ ومواقفَ ما يشبهُ قيَمَ الثورةِ الأصيلةِ. من يرى أن العلويّ أو الدرزيّ أو غيره من الأقلياتِ المذهبيةِ يجب أن يُبادَ لمجرّد انتمائه الطائفيّ، فهو لم يكن يوماً في صفّ الثورةِ، بل في صفّ الجهلِ والانتقامِ الأعمى. الثورةُ التي خرجنا من أجلها أرقى من أن تختزلَ بطائفةٍ أو تنتهي في يدِ تاجرِ دمٍ.
حين توثّق روزا ياسين وجوه الناجين من مجازر الساحل، هل تحاول أن تُنقذ الذاكرة من مقصلة الانتقام، أم تنقذنا نحن من العمى الأخلاقي؟
حين وثّقتُ شهادات الناجين من مجازر الساحل، لم يكن هدفي أن أدوّن فصلاً من الألم فقط، إنّما إنقاذ ما تبقّى من إنسانيتنا من العمى الأخلاقي. نعم، كان ذلك نداءً في وجه الإنكار والتشويه والتكذيب، محاولة لانتزاع الحقّ الطبيعيّ للضحية في أن تصرخَ من وجعها دون أن تُتهم بالطائفية أو التحريض. لقد عشنا لحظة، وما زلنا نعيشها كل يوم، يُراد فيها للضحية أن تموت بصمت، أن تُدفن بلا اسم أو شهادة، أن يُمنع عنها حتى الأنين. (يعني موتوا من تم ساكت) في ظلّ هذا الإنكار الممنهج شعرتُ أنَّ دوري ككاتبة وأم ونِسْويّة أن أُعير هؤلاء صوتي. لم يكن لديّ سلاح، لكن كان لي قلم، لي وجدانٌ لا يستطيع الصمت أمام قتل آلاف البشر من مسافة صفر، أمام مشاهد لا تنتمي إلى هذا العصر، بل تعيدنا قروناً إلى الوراء في وحشيتها المنفلتة.
أردت أن أقول للعالم: هؤلاء بشر لا ذنبَ لهم. نساء، أطفال، شيوخ، شباب، قُتلوا لأنهم كانوا في المكان الخطأ تحت سلطة القتل. نعم هناك من أبناء الطائفة العلوية من ساند النظام، لكن لم تكن الطائفة كلها في صفّ القاتل، كما أنّ هناك من سائر الطوائف من وقف إلى جانبه. لذلك، لا أستطيع أن أحمّل جماعةً بأكملها وزر جريمةٍ ارتكبها نظام سياسي دمويّ.
كتبتُ كي أؤكّد أنّ دماء الأبرياء لا تصنع عدالة، وأن مواجهة التوحّش لا تكون بالانتقام، إذ يجب التمسّك بقوة بحلمنا الأول حلم الثورة النقي، الحرّ، الجامع، الذي لا يعرف الثأر ولا الطائفية. أردتُ أن أصرخَ باسم إنسانيّة توشّحت بالدم، كي لا نصير كلّنا وحوشًا تبرّر القتل بالهويّة.
كيف أثّر المنفى على روزا؟ كيف يمكن لروزا ياسين أن تجد سبيلًا للخروج من صراع الذاكرة والمستقبل الذي يشكل أدبها، في ظل التشتت والضياع الذي يعيشه السّوريون في الداخل والمنافي؟ هل يمكن لهذا الصراع أن يتحول إلى سرد جديد ينفتح على أفقٍ مختلف يُعيد تشكيل الأمل في المستقبل، بعيداً عن آلام الماضي؟
الحياة، كما أراها، مفتوحةٌ على عددٍ لا نهائيَّ من الاحتمالاتِ. نعم، نحن نعيشُ اليومَ في قلبِ الألمِ، وسط خذلانٍ عميقٍ وخوفٍ حقيقيٍّ على المستقبلِ، وعلى مصيرِ السوريينَ في الداخلِ والمنافي. لكنّ التاريخَ يعلّمنا أن لا شيءَ يدومُ إلى الأبدِ؛ لا حكمٌ، ولا سلطةٌ، ولا نظامٌ. وحدهم البشرُ هم من يواصلون العيشَ فوق هذه الأرضِ منذ آلافِ السنينَ، رغمَ كلّ التحولاتِ.
الأملُ يظلُّ ممكناً. الاحتمالاتُ تظلُّ قائمةً، وهي ما تمنحُ الحياةَ طاقتها وفتنتها، ويمنحُ الكتابةَ معناها.
أنا شخصٌ يتغيّرُ باستمرارٍ، وأعتقدُ أن كلّ كاتبٍ يظلّ متمترساً في حالةٍ واحدةٍ، أو تحت شرطٍ ثابتٍ، إنّما يوقّعُ بذلك على نهايةِ تجربتهِ الإبداعيةِ. فالإبداعُ في جوهرهِ قلِقٌ وتبدّلٌ، وحالةُ التحوّلِ الدائمةِ هي شرطُه الأصيلُ. لهذا أؤمنُ أن التغيّرَ هو الثابتُ الوحيدُ في العمليةِ الإبداعيةِ.
أكتبُ اليومَ عملًا جديداً يختلفُ جذرياً عمّا كنتُ أكتبهُ قبل سقوطِ النظامِ، بل حتى قبل أن تبدأَ الثورةُ. كنتُ قد اقتربتُ من إنهاءِ روايةٍ، لكنني لم أعد قادرةً على العودةِ إليها؛ تغيّرَ الإحساسُ، تغيّرت الرؤيةُ. الآن أعملُ على مشروعٍ مختلفٍ تمامًا، يتناولُ ما أسميهِ «كارما الجدّاتِ»، ذاكرةَ نساءِ طائفتِي العابرةِ للأجيالِ. وربّما أعودُ لاحقاً إلى الروايةِ السابقةِ، لكن بشكلٍ مختلفٍ أيضاً.
من بين حكايا الثّورة المُلهمة والموجعة، أيّها أخذت منك أعمق المساحات من الوجع والتأمّل، وشعرت بأنّها قد تكون الركيزة لعمل روائي قادم؟ ما الذي يجعل تلك الحكاية، دون غيرها، تحمل هذا الوزن الثقيل من التأثير؟
هناك العديدُ من الشخصياتِ التي يمكنني العملُ عليها، من مختلفِ الأطيافِ والأماكنِ، وكثيرٌ منها يحملُ إلهاماً حقيقيّاً. على سبيلِ المثالِ، شخصيةُ حفّارِ القبورِ، التي استقيتُ شهادتها من محاكماتِ رموزِ النظامِ السوريِّ في كوبلنز بألمانيا، حيث كان يعملُ في البلديةِ مجبراً على حفرِ المقابرِ الجماعيةِ للضحايا الذين يعرفهم شخصياً. هذه الشخصيةُ كانت ملهمةً جداً بالنسبةِ لي. أثناء كتابةِ الشهاداتِ عن الناجينَ والناجياتِ من مجازرِ الإبادةِ في الساحلِ، تعرفتُ على شخصيةِ أبٍ حفرَ قبورَ أولادهِ الثلاثةِ بيديهِ دون أدواتٍ، كان ذلك تعبيراً عن الألمِ والوجعِ الذي لا يوصفُ. شخصيةُ أمٍّ عجوزٍ حملت جثامينَ أولادِها، وجلستْ معها في البيتِ يومين قبل أن يأخذوهم إلى المقابرِ الجماعيةِ، كلّ هذه الشخصياتِ وغيرها ملهمةٌ بحقٍّ. كتابةُ الشهاداتِ تختلف عن شكلِ العملِ الروائيِّ تقنيّاً وموضوعيّاً، لكنَّ الإلهامَ يبقى حاضراً. في الثورةِ تعرفتُ على كثيرٍ من الشخصياتِ الملهمةِ، من نساءٍ وأطفالٍ، بعضهم ما زال عالقًا في ذهني حتى اليومِ، وقد تكونُ مصدرًا لسردٍ جديدٍ يُضيءُ زوايا مختلفةً من التجربةِ السوريةِ.
ما الذي تغيّر بروزا بعد سقوط الأسد، وبماذا تحلمين؟
بعدَ سقوطِ الأسدِ، تجلّت أمامي أجملُ أحلامي وأسوأُ كوابيسي معاً، في تناقضٍ مرعبٍ وسرياليٍّ. حلمتُ طوالَ حياتي بسقوطِ نظامٍ اعتقلَ أعمارنا ودمّرَ بلادنا، لذلك فقد كانت لحظةُ سقوطهِ لحظةَ تحقيقِ الأمنياتِ المستحيلةِ على الرغم من الطريقةِ الملتبسةِ المثيرةِ للأسئلةِ التي سقطَ فيها، في الوقتِ ذاتهِ كانت مخاوفُ الانتقامِ الطائفيّ باقيةً في روحي لم تتبدّد، من ثمّ تجلّت بشكلٍ أكثرَ قسوةً من الكوابيسِ. هذا التناقضُ الموجعُ بينَ الأملِ والخوفِ جعلني أعيشُ حالةً من الألمِ والخذلانِ، رغم إيماني الراسخِ بأن لا نظامَ الأسدِ ولا السلطةَ الجائرةَ اليوم، المحمّلةَ بفكرها التكفيريّ، ستبقى في سوريا مهما طالَ الزمنُ، لأن وجهَ سوريا الحقيقيّ لا يشبهُ الوحوشَ البشريةَ الساعيةَ لإقصاءِ أيّ مختلفٍ عنها.
اليومَ أمامنا خيارانِ صعبانِ: إمّا استمرارُ هذا الظلمِ والانقسامِ المدمرِ، أو رحيلُ هذه السلطةِ وبدءُ بناءِ سوريا جديدةٍ. رغم أن الطريقَ طويلٌ وأثمانَ الدماءِ باهظةٌ، أتمسكُ بأملِ أن تتوقفَ دورةُ العنفِ ويبدأ الوطنُ برؤيةِ فجرٍ جديدٍ، ورغم كلّ ألمنا، يظل السوريون-ات منخرطين في الشأنِ العامّ بقوةٍ، تؤثّرُ السياسةُ وتقلباتها عليهم تأثيراً مباشراً يصلُ إلى أعماقهم، يطالُ أمزجتهم وعلاقاتهم ويومياتهم، وهو أمرٌ لا يعتبرُ عادياً عند كثيرٍ من الشعوبِ، مما يعكسُ عمقَ تعلقهم بوطنهم وحبهم له رغم كلّ ما مرّوا به.
بماذا أحلم؟ أحلمُ بوطنٍ يحترمُ كرامةَ السوريين، وطنِ القانونِ وحقوقِ المواطنةِ، لا فرقَ فيه بينَ طائفةٍ وأخرى، وطنِ الديمقراطيةِ والحريةِ والعدالةِ، الكاملةِ غيرِ المجتزأةِ، التي نستحقّها، مهما طالَ انتظارُها. أحلمُ بمستقبلٍ لأطفالنا في سوريا جميلةٍ آمنةٍ، متعددةِ الألوانِ والثقافاتِ، لا تُستغلّ فيها هذه التنوعاتُ لزرعِ الكراهيةِ والدمارِ.
رغم كلّ ألمنا، أحلمُ بأن يغفرَ أولادنا لنا، وأن نغفرَ لأنفسنا، وأن نخطو معًا نحو سلامٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ.
*****
لقراءة حوارات سابقة من السلسلة يمكنكم الضغط على هذا الرابط
مقالات مشابهة