تتسارع تطورات المشهد السوري بعد سقوط نظام الأسد في أواخر عام 2024 وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة أحمد الشرع، ليدخل البلد طوراً جديداً تتقاطع فيه بوادر الأمل مع تحديات جمّة ، وفي هذا السياق، تكتسب تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، أهمية خاصة، ولا سيما تحذيره من احتمال انهيار الحكومة الانتقالية في غضون اسابيع إذا لم تُواجه هذه التحديات بفعالية ، رغم تأكيده على دعم واشنطن لإنجاح هذه المرحلة.
وقد تزامنت هذه التصريحات مع رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية وتنامي الدعم العربي، الأمر الذي يفتح الباب أمام قراءة معمقة للتحولات الجارية في سوريا، داخلياً وخارجياً ، مع تأكيد الضرورة التاريخية لصياغة نظام سياسي ديمقراطي لامركزي يضمن العدالة والمشاركة المتساوية لكل المكونات، ويعزز وحدة البلاد من خلال الاعتراف بالتعددية واحترام الخصوصيات المحلية.
أما في الداخل ، فقد تكشّف الواقع السوري بعد عقود من القمع والاقتتال على بُنية مُعقدة من التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فـ”انعدام الثقة العميق”، الذي أشار إليه روبيو، هو أحد مخلفات الإرث الثقيل لعقود من الاستبداد والاستقطاب السياسي والطائفي ، وهي تتطلب انطلاقة جادة في مسار العدالة الانتقالية، وإطلاق عملية مصالحة وطنية شاملة تُعيد بناء جسور الثقة بين السوريين وتُؤمن تمثيلاً عادلاً لجميع القوى والمكونات، بما فيها المكونات القومية والدينية التي طالما همّشتها الأنظمة السابقة.
في حين تتفاقم الأزمة مع استمرار النزوح واللجوء، إذ يعيش ملايين السوريين في حالة تيهٍ قسري، في الداخل والخارج ، ولا بدّ من أن تكون عودتهم أولوية إنسانية ووطنية، وخاصة إلى مناطقهم الأصلية، ومنها المناطق ذات الغالبية الكردية، مع تقديم ضمانات قانونية وسياسية تحفظ حقوقهم وتُعزّز اندماجهم في المشروع الوطني.
أما من الناحية الاقتصادية، فرغم الخطوة الإيجابية المتمثلة في رفع العقوبات، لا تزال البلاد تواجه أزمات عميقة . فالبنية التحتية منهارة، ومشاريع الإعمار تتطلب رؤوس أموال واستثمارات هائلة، فيما يلوح في الأفق شبح التدهور المعيشي الذي يُهدّد قطاعات واسعة من السكان، بل وبانزلاق بعض المناطق نحو مجاعة فعلية ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة في مجالات الزراعة والطاقة والخدمات الأساسية.
بينما لايزال الأمن هشاً، مع استمرار اشتباكات في اللاذقية وطرطوس ، بين فلول النظام السابق وقوات الجيش ، فضلاً عن تصاعد نشاط خلايا داعش في بعض المناطق ، وهذا يتطلب تأسيس قوة دفاعية وطنية جامعة، تعكس التنوع السوري وتضم مكونات محلية وفق عقيدة وطنية جديدة، بعيداً عن الاصطفافات الطائفية أو الولاءات الخارجية.
سياسياً، تقترب البلاد من محطة مفصلية مع التحضير لتشكيل المجلس التشريعي ، غير أن المشهد لا يزال ضبابياً. فضعف الثقة بين الأطراف، واستعجال بعض القوى نحو المحاصصة، فضلاً عن تداخل المصالح الإقليمية والدولية، تهدد بعرقلة مسار التوافق على نظام سياسي عادل ، وفي هذا السياق، تبدو الحاجة ماسة لضمان حقوق الأقليات، وتثبيت مبدأ الشراكة في إدارة الدولة، خصوصاً ما يتعلق بالشعب الكردي ودوره في سوريا الجديدة، بوصفه مكوناً أصيلاً من النسيج الوطني.
لقد ، شكّل قرار رفع العقوبات الدولية لحظة مفصلية في مسار التحول السوري ، فقد جاء مدفوعاً بعدة اعتبارات، أبرزها الضغط الإنساني بعد زلازل عام 2023، والرغبة في تسهيل وصول المساعدات، وتثبيت الاستقرار السياسي في المرحلة الانتقالية. كذلك، يعكس القرار قناعة غربية بأن دعم الحكومة الانتقالية ضروري لتفادي انهيار الدولة، وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار، وفتح الأسواق، وتسهيل تدفق السلع والخدمات إلى الداخل السوري.
كما أجبر سقوط النظام القديم القوى الدولية على إعادة تقييم سياساتها، وبدأت مؤشرات على انفتاح متزايد نحو الاعتراف الدولي بالحكومة الجديدة، شريطة التزامها بالمعايير الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتعددية السياسية.
في حين عاد الملف السوري إلى واجهة الاهتمام الإقليمي بعد سنوات من التجاهل ، وشهدت الرياض تحوّلاً في المقاربة العربية، حيث لم يعد التعامل مع سوريا قائماً على الحسابات الأمنية وحدها، بل أضحى مرتبطاّ بدعم مسار الانتقال السياسي، وبناء شراكات اقتصادية واستراتيجية ، بما فيها دعم الجوانب السياسية والاقتصادية، وترجمة ذلك من خلال المشاريع التنموية والمساعدات، فضلاً عن استخدام العواصم العربية لنفوذها لتخفيف ما تبقى من القيود الغربية.
يُمثل هذا الانخراط العربي اعترافاً بالواقع الجديد في سوريا، ويعكس رغبة صريحة في استقرار المنطقة ومنع المزيد من الانهيارات على قاعدة احترام وحدة الأراضي السورية، وتعزيز نموذج الدولة الديمقراطية اللامركزية، التي تضمن مشاركة جميع المكونات في إدارة شؤونها، وتصون الخصوصيات الثقافية والمجتمعية لكل منطقة.
إن ما يجري في سوريا بداية لمرحلة مفصلية من تاريخها الحديث ، وبالتالي تحمل تصريحات ماركو روبيو، رغم تحذيراتها، تأكيداً ضمنياً على وجود إرادة دولية وعربية حقيقية لدعم هذه المرحلة الانتقالية. غير أن العبء الأكبر يقع على عاتق السوريين أنفسهم ، وبالأخص الحكومة الانتقالية التي عليها أن تثبت قدرتها على قيادة مسار وطني جامع، وان تدير ملف اللاجئين والمهجرين، وتحقق التعافي الاقتصادي، وتبني مؤسسات قادرة على فرض الاستقرار، قبل انتهاء المرحلة الانتقالية ، والتوجه نحو انتخابات ديمقراطية نزيهة.
الأهم من ذلك، أن تسعى هذه الحكومة إلى بناء دولة سورية حديثة، تعددية، ديمقراطية، تضمن الحقوق المتساوية لكل مواطنيها، وتُقرّ صراحة باللامركزية كركيزة رئيسية لحماية التنوع، وضمان الاستقرار والتنمية المستدامة.
ففي ظل الدعم العربي والدولي، ورفع العقوبات، تبدو الفرصة سانحة — وربما نادرة — أمام سوريا لتخرج من رماد الحرب نحو مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً، رغم أن هذا الطريق ما يزال محفوفاً بالمخاطر ويتطلب شجاعة سياسية، ورؤية وطنية، وإرادة جماعية لإنجاز التحوّل المنشود.