لماذا قرّرت الإدارة الفرنسية مواجهة الإخوان المسلمين؟ لماذا لم تعد تكتفي بمراقبتهم؟ وما هي مخاوف فرنسا العميقة من انفلاشهم داخل المجتمع الفرنسي؟
قد تبدو فرنسا على أبواب مرحلة جديدة تقوم على مواجهة سياسية وقانونية وأيديولوجية معلنة لديها هدفان:
الأوّل: هو حماية القيم والجمهوريّة.
الثاني: قطع الطريق لمنع تحوّل قوّة الإخوان الناعمة إلى قوّة تأثير وتحكّم من دول مختلفة بالسياسة الفرنسية.
تعلم الإدارة الفرنسية جيّداً كيفية استفادة الجماعة من القوانين الفرنسية. لكنّها لا تتخوّف من تهديدات أمنيّة مباشرة. ترصد تغلغلاً أيديولوجيّاً يسعى إلى إعادة تشكيل القيم داخل المجتمع الفرنسي. فبين الخوف من تمدّد اليمين وفوضى اليسار المعارض إلى كلّ شيء من جهة، والقلق من الراديكاليّات المحتملة من جهة ثانية، تعمل الإدارة الفرنسية على حماية الجمهورية، ولذلك انتقلت أخيراً إلى مواجهة الإخوان المسلمين عوضاً عن الاكتفاء بمراقبتهم منذ أكثر من نصف قرن. وتفرّق فرنسا بين المسلمين الذين أصبحوا من النسيج الفرنسي ومن أصل الدولة، وبين الإسلام السياسي وخطره بسبب إمكان التلاعب بتفاصيل الثوابت الأهليّة الفرنسية.
تعلم الإدارة الفرنسية جيّداً كيفية استفادة الجماعة من القوانين الفرنسية. لكنّها لا تتخوّف من تهديدات أمنيّة مباشرة
التمويل قطري – تركي – اندونيسي
تعدّ الإدارة الفرنسية تزايد نفوذ الجماعة في داخلها تهديداً للتماسك الوطني. ولذا ينبغي العمل على تجفيف مواطن القوّة الناعمة لكي لا تتحوّل إلى كتلة مهيمنة تبدّل من الطبائع التأسيسية الفرنسية. ويتجلّى ذلك من خلال:
إصلاح القوانين الفرنسية المنظّمة والمرعيّة الإجراء وردم الثغرات والفجوات القانونية، التي تغطّي هذه الحركة وتعطي الرخصة بالقانون لزيادة الانفلاش.
التدقيق في أصول التمويل، إذ تعلم الإدارة الفرنسية أنّ أطرافاً دولية مثل قطر وتركيا وحتّى إندونيسيا وغيرها مشاركون في هذا الدعم، وتتخوّف من أن تتحوّل هذه الهياكل إلى نوع من أداة القوّة الناعمة لهذه الدول للسيطرة داخل المجتمع الفرنسي، وتخشى من احتمالية انفلات مجموعات وأفراد منهم على المستوى الشخصيّ للقيام بأعمال فوضى.
تعدّ الإدارة الفرنسية تزايد نفوذ الجماعة في داخلها تهديداً للتماسك الوطني. ولذا ينبغي العمل على تجفيف مواطن القوّة الناعمة لكي لا تتحوّل إلى كتلة مهيمنة
تتوجّس فرنسا اليوم من الأساليب المعتمدة من قبل الإخوان المسلمين، ومن طريقة عملهم على فترات زمنية طويلة، ومن نيّتهم البلوغ المتدرّج إلى مرحلة التعديلات للقواعد المحلّية أو الوطنية، خاصة المختصّة بالعلمانية والمساواة وحيثيّات الجندرة بين الرجال والنساء. تعمل على مواجهة ذلك عبر عدّة مراحل:
أوّلاً: العمل على فهم التهديد بشكل أفضل لمحاربة الإسلام السياسي بفاعليّة أكبر.
ثانياً: تطوير النصوص القانونية والبحثيّة والمصارحة، تمهيداً لمحاربة استراتيجية أسلمة المعرفة.
ثالثاً: الاستناد إلى نماذج وإدراكات الواقع بشكل تفصيلي، واعتماد تطلّعات المسلمين في فرنسا والاستجابة لها.
رابعاً: الاهتمام المعزّز باللّغة العربية وتعليمها في المدارس الرسمية.
خامساً: الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية تأكيداً لنظريّة الحقّ القانوني المكتسب وتطبيق القرارات الدولية وعدالة حقّ تقرير المصير واستقلال الدول، ولتخفيف الشعور بالإسلاموفوبيا.
تتوجّس فرنسا اليوم من الأساليب المعتمدة من قبل الإخوان المسلمين، ومن طريقة عملهم على فترات زمنية طويلة
تهديد مباشر
تتحكّم إسطنبول بمفاتيح عديدة من مصادر تمويل الجماعة، وتسيطر جبهة لندن على ملفّات مهمّة. لكن منذ إسقاط حكم الإخوان في مصر في سنة 2013، دخل التنظيم في مرحلة طويلة من الإرباك والتفكّك. اتّسعت تداعيات هذا الصراع إلى إخوان أوروبا، ومحاولاتهم التوغّل داخل المجتمع الأوروبي. فعمدت جماعة الإخوان إلى تأسيس المشاريع والتوغّل بسياسات استثمارية واسعة للتمويل. أدّى الانقسام العميق بين جبهتَي لندن وإسطنبول إلى ظهور ثلاث قيادات متنازعة على القيادة والتمويل، ومنها قطر. وكشف أخيراً تقرير صادر عن مجلس الشيوخ الفرنسي عن الدور الذي تلعبه قطر، وهي أكبر الجهات المموّلة للإسلام السياسي، في دعم جماعة الإخوان في فرنسا. يسلّط التقرير الضوء أيضاً على العديد من الصلات الاقتصادية والتخادميّات التجارية المستغلّة من قبل الجماعة. ويشير إلى الروابط الماليّة بين قطر وتركيا والجماعات الإسلامية. وتستعرض الإدارة الفرنسية تأثير هذا التمويل على المجتمع الفرنسي. يُبرز التقرير كيفيّة استخدام هذه الأموال في تعزيز النفوذ السياسي والديني للجماعات الإسلامية في فرنسا، وهو ما يعتبر تهديداً مباشراً للقيم العلمانية للجمهورية الفرنسية. ويدعو التقرير في خلاصته إلى تعزيز الرقابة على التمويل الأجنبي ومكافحة مفاعيله.
تركّز الإدارة الفرنسية على أهمّية البقاء في إطار لغة القانون والمؤسّسات، وعدم الانزلاق إلى منطق التعسّف أو الاستثناء والفوضى، كأنّها في حرب باردة على قيمها ومع نفسها أوّلاً. يتجلّى هذا الأمر في أولويّة تعديل وتطوير القوانين ذات الصلة، في إشارة إلى أنّ أدوات القانون العامّ غير قادرة على مواجهة تهديد الإخوان. وتناقش إمكان تشريع قوانين جديدة لمكافحة الحالة الإسلاموية. تحقّق فرنسا أكثر في كلّ مبادرة مموّلة للتأكّد من أن لا تكون جزءاً من مشروع أكبر. قد يكون هذا البرنامج امتداداً للاستراتيجية القطرية أو التركية أو غيرهما التي تهدف إلى الاعتماد على جماعة الإخوان المسلمين كجماعة مؤثّرة داخل فرنسا.
إقرأ أيضاً: الجيش الإسرائيلي: الانتحار أزمة صامتة؟
تريد الإدارة الفرنسية منع التسرّب العقائدي. لا تقبل نشر أيّ خطاب مضادّ للعلمانية، مع علمها بأنّه ليس موقف كلّ المسلمين الفرنسيين. ولا ترغب بأن يتحوّل إلى مادّة سجال داخل الحكومة، أو الى منافسة داخل أروقة الإليزيه. ولا تنوي السماح لليمين المتطرّف ولا حتّى لليسار الاستفادة منه. تريده ملفّاً وطنيّاً فرنسيّاً لحماية المبادئ. لذا تعمل أيضاً على وضع استراتيجية لمراقبة التشكيل المرتكز على التأثيرات المعنوية، سيما عبر مؤسّسات تعليمية دينية، وتأثير مراكزها الثقافية القريبة من قيم الجمهورية. هل تحوّل الإخوان إلى ورقة سياسية ضدّ فرنسا؟