لا تزال المفاوضات على البرنامج النّوويّ الإيرانيّ عند عقدة “التخصيب”. تطرَحُ واشنطن تصفير تخصيب اليورانيوم على الأراضي الإيرانيّة، فيما تصرّ طهران على التخصيب على اعتباره حقّاً مُكتسباً بالقوانين الدّوليّة. ما جديد المفاوضات؟ وماذا تُريدُ إيران؟ وماذا تُريد الولايات المُتّحدة؟
ربّما أفضل وصفٍ للجولةِ الخامسة للمفاوضات بين واشنطن وطهران جاءَ على لسان الوسيط العُمانيّ وزير الخارجيّة بدر البوسعيدي الذي قال عقبَ الجلسةِ: “أحرزنا تقدّماً لكنّه غير محسومٍ”. وهو ما يدلّ على أنّ المفاوضات النّوويّة وصلَت إلى نقطةٍ بالغة الحساسيّة: إمّا أن تمضيَ قُدماً وإمّا أن تنهار.
ماذا قدّم العُمانيّون أخيراً؟
تشير معلومات “أساس” إلى أنّ ما وصلَ إلى طهران بعدَ الجلسة الخامسة لا يحتوي بشكلٍ واضحٍ على طلب وقفٍ لأنشطة التخصيبِ بشكلٍ كاملٍ ودائم. إذ يعملُ العُمانيّون على مُقترحات “لاتّفاقٍ مؤقّت” يتضمّن تخفيف العقوبات عن إيران مُقابل قَبول إيران بخفض أنشطةِ الخصيب الحاليّة إلى مستويات “تُريح” إسرائيل وأميركا، وتحديد أنواع أجهزة التخصيب وكمّيّاتها وتعليق عمل الباقي.
هذا ما يسعى إليهِ العُمانيّون حاليّاً ليكون حلّاً مؤقّتاً لإنقاذ مصير المفاوضات، وتعزيز الثّقة المفقودة بين الجانبيْن، التي باتَ واضحاً أنّ من الصّعب ترميمها في ظلّ ارتفاع أصوات اعتراض المُتشدّدين داخل إيران، والتشويش الإسرائيليّ على أميركا. وهذا ما استدعى إيفاد دونالد ترامب لوزيرة الأمن الدّاخلي كريستي نويم إلى إسرائيل لتطلبَ من بنيامين نتيناهو تركَ المفاوضات تسير “بإيجابيّة”.
تُدركُ إيران جيّداً أنّ انهيارَ المفاوضات يعني تمديد “سنوات العزلة”، وتشديد العقوبات الأميركيّة ورُبّما توجيه ضربة عسكريّة للمنشآت النّوويّة والبنية العسكريّة.
بدورها، تُدركُ إدارة الرّئيس دونالد ترامب أنّ انهيار المفاوضات مع إيران يعني نقطةً سوداءَ على سجلّ سياستها الخارجيّة، لا يُريدها الرّئيس الأميركيّ الذي لم يصل بعد إلى نتائج ملموسة في ما يخصّ الملفّات الـ3 الأساسيّة: الحرب الرّوسيّة – الأوكرانيّة، والحرب الإسرائيليّة على غزّة، والملفّ النّوويّ الإيرانيّ.
بحسبِ معلومات “أساس”، أبلغَ الجانبَ العُمانيّ الإيرانيّين أنّ الولايات المُتّحدة قد تتّخذ بالفعل إجراءات واضحة وعلنيّة لتخفيف بعضِ العقوبات
يعني هذا أنّ الجانبَيْن لا يُريدان إعلان فشلِ المفاوضات، مع تعليق الأمل على الوسيطِ العُمانيّ الذي يلقى معاونةً قطريّةً تجلّت في اللقاء الثّلاثيّ الذي جمَعَ وزيرَيْ خارجيّة عُمان وقطر، بدر البوسعيدي والشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، مع نظيرهما الإيرانيّ عباس عراقتشي الأسبوع الماضي قبل جلسة المُفاوضات. وبدت لافتة زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزكشيان أمس لمسقط قيل إنّها اقتصادية لكن ذات طابع سياسي في سياق تقريب المسافة بين طهران وواشنطن.
ماذا حصلَ الأسبوع الماضي؟
أرسلَت الولايات المتّحدة مُقترحاً لمسوّدة اتّفاقٍ تتضمّن تفكيك أجهزة الطّرد المركزيّ بالكامل وتصفير تخصيب اليورانيوم على الأراضي الإيرانيّة. سُرعانَ ما أبلغَ الإيرانيّون الجانب العُمانيّ أنّهم لم يحسموا أمرَ الحضور إلى طاولة المُفاوضات. وأدّى الجواب الإيرانيّ إلى اللقاء الثّلاثيّ مع عُمان وقطر.
المفاوضات
نجحَ الثّنائي العُمانيّ – القطريّ في إقناع إيران بأنّ ما أرسلتهُ واشنطن هو “مُقترحٌ يحتملُ الأخذ والرّدّ والتعديل والنّقاش”. وكانَ عبّاس عراقتشي على قناعةٍ بأنّ مقاطعة المُفاوضات سيُعطي الذّرائع لأميركا وإسرائيل لتشديد الإجراءات ضدّ إيران.
استدعَى هذا تدخُّلَ المُرشِد الإيرانيّ علي خامنئيّ ليَرسُمَ أٌفق التّفاوض للفريق الإيرانيّ الذي يرأسه وزير الخارجيّة عبّاس عراقتشي. كانَ السّقفُ الذي رسمه خامنئيّ واضحاً: “إيران لن تتخلّى عن أنشطةِ التّخصيب، ولا أعتقِدُ أنّ المفاوضات ستصلُ إلى نتيجة، لا أعلم”.
تتضمّن رسالةُ خامنئيّ في طيّاتها ما هو دونَ “الخطّ الأحمر”، أيّ أنّ بلاده على أتمّ الجهوزيّة لمُناقشةِ نسب التّخصيب وعدد أجهزةِ الطرد المركزيّ من دون أن يؤدّي ذلكَ إلى تصفيرها. وهو ما يعني أنّ إيران قد تقبل بتحديد كميّة ونسبة اليورانيوم التي يُسمحُ لها بتخصيبها في منشآتها مهما كانت قليلة، بشرطِ أن يبقى “العنوان”.
تُدركُ إيران جيّداً أنّ انهيارَ المفاوضات يعني تمديد “سنوات العزلة”، وتشديد العقوبات الأميركيّة
بحسبِ معلومات “أساس”، أبلغَ الجانبَ العُمانيّ الإيرانيّين أنّ الولايات المُتّحدة قد تتّخذ بالفعل إجراءات واضحة وعلنيّة لتخفيف بعضِ العقوبات عن إيران في المدى القريب كبادرة حُسنِ نيّةٍ لحثّ طهران على التّفاوض بجدّيّة.
خامنئي في مواجهة “صقور الإدارة”؟
طوال جلسات التّفاوض السّابقة، بما في ذلكَ الجلسة الرّابعة، لم يطرح المبعوث الأميركيّ ستيفان ويتكوف أيّ حديثٍ عن “تصفير التّخصيب”. إذ كانت طهران أبلغَت واشنطن منذ ما قبل الجلسة الأولى أنّها ليسَت في هذا الوارد.
لكنّ ظهور مُقترحِ “تصفير التخصيب وأجهزة الطّرد المركزيّ” بعدَ عودة ويتكوف إلى بلادِه مع انتهاء الجلسة الرّابعة، يعنيّ أنّ تيّاراً وازناً في الإدارة الأميركيّة يُمثّل المُتشدّدين في وزارتَيْ الخارجيّة والدّفاع ومجلس الأمن القوميّ، المُقرّبين من اللوبي الإسرائيليّ، يُطالب بتصفير الأنشطة النّوويّة الإيرانيّة.
يرمي ضغطُ “الصّقور” على إيران إلى إحراجِها أمام الرّئيس الأميركيّ. ففي حال انهارَت المُفاوضات، تُصبحُ إيران أمام خيارات ضيّقة، منها:
1- اللجوء إلى تغيير عقيدتها النّوويّة. وهذا يُعزّزُ وجهة نظر رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو حولَ الطّبيعة العسكريّة للبرنامج النّوويّ الإيرانيّ والعمل على تدمير إسرائيل. وبالتّالي تكونُ طهران عرضةً لأكثر من ضربةٍ عسكريّة أميركيّة – إسرائيليّة.
2-عرض الوقف الكامل لتمويل أذرعها في المنطقة من لبنان إلى اليَمَن بشرطِ السّماح لها بتخصيب اليورانيوم بنسبٍ تُشبهُ اتّفاق 2015.
إقرأ أيضاً: إيران.. التّفاوض أوّلاً كمصلحة للنّظام
هنا يصحّ القول إنّ المُرشدَ الإيرانيّ اختار أن يرسَمَ السّقفَ التفاوضيّ شخصيّاً للدخول في نوعٍ من المواجهة مع تيّار الصّقور المُتشدّدين في الإدارة الأميركيّة، وأن يضغطَ على مصير المفاوضات برمّتها بهدفِ الضّغطِ على الرّئيس الأميركيّ الذي يحتاج إلى إنجازٍ على صعيد السّياسة الخارجيّة.