ملخص
حجج الاحتفاظ بسلاح الفصائل في المخيمات على الأراضي اللبنانية تبدو مضحكة. فلا هذا السلاح هو الذي يضمن حق العودة ويمنع التوطين. ولا هو مؤهل لدور في معركة فلسطين التي تكون في الداخل أو لا تكون.
دقت ساعة لبنان بعد ستة عقود من العملية الفدائية الأولى التي أعلنت عنها حركة “فتح” في بداية عام 1965، تفاهم على ترتيب جدول زمني لسحب السلاح الفلسطيني من المخيمات وخارجها. ستة عقود تغيرت الدنيا خلالها، وصولاً إلى التحولات الإقليمية والدولية الأخيرة التي لا تزال مفاعيلها تتطور. وما على المحك يتجاوز عملية “طوفان الأقصى” وحرب غزة وحرب الإسناد في لبنان وانهيار النظام السوري، واللعب السوري والإسرائيلي والإيراني والتركي بالمصير الفلسطيني واللبناني ضمن الصراع الجيوسياسي والاستراتيجي الإقليمي والدولي في الشرق الأوسط وعليه.
وليس بيان قصر بعبدا وإعلان السراي الحكومي بعد المحادثات مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس سوى إعادة تأكيد لإقفال ملف السلاح الفلسطيني في لبنان وفرض السيادة على كل الأرض. لا فقط لأن هذا جزء من حق لبنان وواجب الفلسطينيين حيال تضحيات بيروت الكبيرة من أجل قضيتهم، بل أيضاً لأنه صار ضرورة فلسطينية لوقف الاستغلال الخطر لوضع المخيمات وتوظيفها لأهداف تؤذي لبنان وفلسطين.
وعسى ألا تواجه تجربة التفاهم اللبناني- الفلسطيني ما واجهته تجارب المصالحة بين “فتح” و”حماس” التي حملت أسماء اتفاقات مكة والقاهرة وموسكو وبكين وأماكن أخرى بوساطات عربية ودولية، ثم تعثر تنفيذها وأدى إلى تعميق الخلاف. فمنذ بدأ الرئيس محمود عباس زيارته إلى لبنان، وأصوات الممانعين ترتفع قائلة إن رئيس السلطة لا يمون على الفصائل الفلسطينية التي ليست ضمن منظمة التحرير. والمقصود بالطبع “حماس” و”الجهاد الإسلامي” والفصائل الصغيرة والمتعددة التي يقودها جهاديون سلفيون. لكن لبنان الذي لم يكن قادراً على اعتقال أو طرد مطلوبين خطرين في أزقة المخيمات ولو كانوا من “داعش” أو “القاعدة”، صار بقوة التحولات والحكم الجديد يمون على كل من هو على أرضه مهما حمل من شعارات.
ذلك أن حجج الاحتفاظ بسلاح الفصائل في المخيمات تبدو مضحكة. فلا هذا السلاح هو الذي يضمن حق العودة ويمنع التوطين. ولا هو مؤهل لدور في معركة فلسطين التي تكون في الداخل أو لا تكون. وليس إطلاق بعض الصواريخ من الجنوب هو الدعم الذي تحتاج إليه “حماس” في غزة. حتى “حماس” التي تحمل سلاحاً في المخيمات تواجه ضغوطاً عسكرية وسياسية للتخلي عن السلاح في غزة نفسها. والكل يعرف أن السلاح عاجز عن حماية المخيمات، لكنه قابل للتوظيف في معارك بين الفصائل، كما في حماية المطلوبين والمخدرات وحروب الأزقة التي تنتهي إلى لا شيء رغم الدمار.
أكثر من ذلك، فإن المخيمات صارت بؤرة للجهادية السلفية التي تتخطى الهوية الوطنية والقومية للشعب الفلسطيني. وهذا ما أضاء على جوانب منه الباحث الفرنسي برنار روجييه الذي قضى عامين في مخيم عين الحلوة، ثم أصدر كتاباً تحت عنوان “جهاد كل يوم” عن صعود الراديكالية الإسلامية في المخيمات. فما رآه وسمعه روجييه أبعد من “كون المخيمات صارت مثل لبنان أرض معركة في مواجهة إقليمية ودولية بين إيران وسوريا وحلفائهما من جهة وأميركا والدول العربية السنية من جهة أخرى”.
سحب السلاح من المخيمات الفلسطينية في لبنان يبدأ منتصف يونيو
وما يقرأه التلاميذ في مدارس السلفيين ويسمعه المصلون في المساجد التي يخطب فيها الجهاديون يؤكد أنه “لم يعد من الممكن اليوم الحديث عن مجتمع فلسطيني” صاف بصرف النظر عن الانقسامات والخلافات حول التسوية والتحرير. فالسلفيون الجهاديون يريدون العودة إلى الماضي ولهم ارتباط بالمراكز السلفية في أفغانستان والباكستان وسواهما، ويعطون الأولوية لنصرة الإيغور في الصين و”عسكر طيبة” في كشمير. وهم “حرروا أنفسهم من الوطنية الفلسطينية” للاندماج في أممية إسلامية كونية عابرة للأوطان.
ومهما يكن، فإن السلاح لم يبق له دور في لبنان. لا سلاح “حزب الله” الذي يحمي سلاح “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ولا بقية أسلحة المنظمات وعلى رأسها “فتح” وكلها نموذج عبثي. فمن يبرر الحفاظ على سلاحه بالأمن داخل المخيمات، صار يعرف أن الدولة اللبنانية هي ضمان الأمن للمواطنين و”الضيوف الموقتين” الفلسطينيين في المخيمات وخارجها. ومن يحتج بأن مهمته هي تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، يتطلع حوله فلا يرى سوى معاهدتي سلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن، و”اتفاق أوسلو” مع منظمة التحرير و”اتفاقات أبراهام بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب”، ورعاية أميركا وروسيا والصين لإسرائيل مع الدعوة إلى “حل الدولتين”.
والساعة دقت أيضاً لموضوع طال انتظاره، معالجة الوضع الإنساني للاجئين الفلسطينيين. شيء يتعلق بفرص العمل، وشيء يرتبط ببناء أو ترميم المساكن. ولا خطوط حمر إلا بالنسبة إلى ما يكرس التوطين المرفوض لبنانياً وفلسطينياً لأسباب وطنية وقومية. ولا مجال بعد اليوم للالتباس والمغمغة والمماطلة في إقفال ملف السلاح في لبنان والمخيمات تطبيقاً متأخراً لاتفاق الطائف الذي نص على “حل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية”.
و”لا تقاتل حين لا يكون لديك حظ في النصر”، كما قال تشرشل.