إن مسؤولية الكلمة تستدعي مواجهة الواقع دون مجاملة، رغم أن ما أورده هنا قد لا يلقى استحسانا لدى الكثيرين ممن يرون في الحركة السياسية الكوردية إطارا مطلق الشرعية، ولكن لا أحد يستطيع إنكار أن أداء القوى الكوردية قبل سقوط نظام البعث لم يكن على مستوى التحديات الوجودية التي واجهها الكورد السوريون، فقد غابت الرؤية، وضمرت الأدوات، وانحصر الفعل السياسي في هوامش رمزية لم ترتق إلى مشروع تحرر وطني أو حتى إلى مستوى خطة حداثية للإصلاح الداخلي.
ولكن الجغرافيا السياسية للمشهد أعيد صياغتها بعد عام 2011 تحت تأثير قوى الأمر الواقع، فقد نجحت ” قسد” بتجلياتها المختلفة وبدعم دولي معقد، في إخضاع المجال العام لمنظومة أمنية صارمة، أسكت فيها كل صوت خارج عن السردية الرسمية، بينما انبرى ” المجلس الوطني الكردي” للتقوقع داخل دائرة التبعية المهينة للائتلاف، مسلما مقاليده لممثلين لا يختلفون كثيرا عن ” الوجه المدني للفساد”، ممن يحولون الدم إلى امتياز وظيفي.
لكن هذه التجربة ليست استثناء في تاريخ الشعوب. بل هي تكرار لما حدث في لحظات انتقالية عديدة حين تتصادم إرادة التغيير المجتمعي مع سطوة النخب السياسية التقليدية.
ففي فرنسا وبعد اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789، احتاج المجتمع الفرنسي زمناً طويلاً لبلورة مساحة مدنية تقف على مسافة واحدة من الدولة ومن الأحزاب، وتخلق نوعاً من الرقابة الاجتماعية والفكرية المستقلة. وتتصدى للطبقة السياسية التي حاولت احتكار السلطة تحت يافطة “الشعب”. عبر النوادي السياسية والصالونات والصحافة الحرة.
وفي ألمانيا في مرحلة ما بعد النازية وهتلر، لم يخرج المجتمع المدني الألماني من قلب الأحزاب بل بالعكس فقد نشأ من اتحادات المثقفين، ومنظمات رعاية الضحايا ومبادرات المصالحة المجتمعية التي أعادت الروح الديمقراطية من القاع إلى القمة، فالأحزاب التقليدية القديمة لم تكن قادرة على استيعاب حجم الكارثة الأخلاقية التي ورطت البلاد فيها.
ورغم أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) كان قوة التحرر الرئيسية، التي أنهت النظام العنصري (الأبارتهايد) في جنوب أفريقيا، فإن هذا الإنجاز لم يكن ليتحقق دون ضغط المجتمع المدني، الذي مثلته نقابات العمال، والكنيسة، والحركات الشبابية، ومجموعات العدالة الانتقالية. فسلطة الحزب التاريخي سرعان ما بدأت تتآكل بالفساد، وكان المجتمع المدني هو من رفع الصوت وحمى المكتسبات الديمقراطية.
ولم يقتصر الأمر على أوروبا وأفريقيا فحسب، ففي أمريكا اللاتينية، في تشيلي والأرجنتين بعد سقوط الديكتاتوريات، لعبت جمعيات الأمهات، ومنظمات الطلاب، والصحفيون المنفيون دوراً محورياً في الكشف عن الحقيقة وتحقيق العدالة. ولم تكن هذه المبادرات في أي بلد منها حزبية الطابع، بل مدنية بامتياز، وعارضت عودة الأحزاب التقليدية إلى السلطة دون محاسبة أو مراجعة.
وفي كل هذه الحالات، اصطدم المجتمع المدني الوليد بمنظومات تقليدية، كانت ترى في التجديد تهديداً لمصالحها، وفي المشاركة الشعبية نوعاً من العصيان على “الشرعية التاريخية”. ولكن، كما أثبتت التجارب، لم يكن الاستقرار الحقيقي ممكناً دون إفساح المجال أمام هذا المجتمع ليعبر عن نفسه، ويعيد تعريف معايير الشرعية والتمثيل.
وفي الوقت الذي يقف فيه المجتمع الكوردي السوري عند مفترق طرق مشابه، فإننا نشهد مظاهر استهلاك القوى السياسية الكوردية التقليدية، سواء التي ارتدت عباءة الثورة أو تلك التي تبنت لغة مستقلة (تحررية قومية أو مبتكرة) رصيدها الأخلاقي والسياسي، دون أن تقدم نموذجاً قابلاً للحياة أو التأثير المستدام.
فما بين سلطة الأمر الواقع التي تحكم دون مساءلة، ومجالس تعيش على هامش الأحداث، تكمن الحاجة العاجلة لولادة مجتمع مدني كردي حقيقي، غير تابع ولا مستتبع، مستقل في خطابه، منفتح على العصر، قادر على كسر الطواطم والتابوهات، وتجاوز الخوف من “قدسية” الأحزاب.
هذا المجتمع لن يولد بقرار فوقي، بل سيتشكل من رحم المبادرات المحلية، والنقابات، والتجمعات النسوية، والطاقات الشبابية، ومن كل صوت رافض لاختزال مصير مجتمع بأكمله في صفقات أو سرديات تفرض عليه باسم الحماية أو النضال.
لقد آن الأوان أن ندرك، أن الصمت ليس حياداً، وأن النقد ليس خيانة، وأن المستقبل لا يُرث… بل يُبنى.