بين وقف إطلاق النار في غزة، وتصاعد اللهجة الأميركية حيال سلاح “حزب الله”، يقف لبنان اليوم على مشارف تصعيد جديد لا يشبه الحروب السابقة، بل يرتكز على توازنات هشة ورهانات متشابكة. فالتصعيد الاسرائيلي المتكرر، والتحذيرات الدولية، والزيارة المرتقبة للمبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، جميعها مؤشرات إلى أن الجنوب اللبناني لم يعد ساحة منسية، بل عاد ليشكّل “الجبهة المفضلة” في حسابات اللاعبين الاقليميين والدوليين.
إسرائيل تفتح جبهة الجنوب
مع ارتفاع مؤشرات وقف إطلاق النار في غزة، رفعت إسرائيل من وتيرة عملياتها في الجنوب اللبناني، واللافت أن الغارات استهدفت في كثير من الأحيان مواقع هامشية أو سبق قصفها، ما يوحي بأنها رسائل ردع أكثر من كونها تمهيداً لحرب شاملة.
كما تم توثيق خروق شبه يومية للطيران الاسرائيلي في أجواء الجنوب والبقاع، إلى جانب توغلات محدودة داخل الأراضي اللبنانية، وسط شلل تام في عمل لجنة مراقبة وقف إطلاق النار، التي يُفترض بها تثبيت الهدنة. إلا أن اللجنة باتت معطّلة، نتيجة أسباب سياسية، أبرزها تردد واشنطن في تحميل إسرائيل مسؤولية خرق القرار 1701، ورفض لبنان رفع مستوى التنسيق المباشر مع تل أبيب.
نتنياهو.. الهروب إلى الأمام عبر لبنان
لا يمكن فصل التصعيد الاسرائيلي في الجنوب اللبناني عن السياق الداخلي المأزوم في إسرائيل، حيث يواجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أزمة سياسية خانقة، تتراوح بين انقسامات داخل ائتلافه الحاكم، وتراجع في شعبيته، وتزايد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية. وفي ظل هذا الوضع، يسعى نتنياهو إلى إبقاء ماكينته العسكرية في حال استنفار، كوسيلة للهروب من مواجهة داخلية قد تكون كارثية.
وبعد اضطراره الى الرضوخ للضغط الأميركي والقبول بوقف إطلاق النار في غزة، وجد نتنياهو في الساحة اللبنانية متنفساً لإبقاء إسرائيل في موقع الهجوم. إذ تبدو جبهة الجنوب اليوم الأنسب لتصدير أزماته الداخلية، عبر توجيه ضربات محسوبة الى “حزب الله” تحت عنوان “الردع”، مستنداً في ذلك إلى دعم أميركي غير مباشر يتجلى في تصاعد الانتقادات لسلوك الحزب.
إنجازات الجيش اللبناني
في موازاة ذلك، كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن تقدم ملحوظ حققه الجيش اللبناني في نزع سلاح “حزب الله” جنوب الليطاني، وذلك بمساعدة استخباراتية جزئية من إسرائيل. ووصف مسؤولون أميركيون هذا التطور بـ”غير المتوقع”، مشيرين إلى أنه يمثل خطوة في مسار تعزيز سلطة الدولة اللبنانية.
وفي تصريح صحافي، أكد رئيس الحكومة نواف سلام أن حكومته “أنجزت نحو 80% من أهدافها في الجنوب”، مشدداً على أن حصرية السلاح بيد الدولة أمر لا رجوع عنه. لكنه أقرّ ضمنياً بأن توسيع هذه العملية إلى الشمال أو الضاحية أو البقاع يبقى مسألة شائكة ترتبط بتعقيدات سياسية وأمنية.
“حزب الله”: تراجع في التموضع لا في الموقف
على الرغم من الضغوط المتزايدة، لا يظهر “حزب الله” أي نية للتنازل عن سلاحه، بل يكرر تمسّكه به كجزء من استراتيجية “الردع”، ويربط التخلي عنه بتحقيق “التحرير الكامل” ووقف الاعتداءات الاسرائيلية. لكنه، في المقابل، يواجه صعوبات حقيقية في إعادة بناء ترسانته، خصوصاً بعد إغلاق ممرات التهريب من سوريا، وتراجع النفوذ الايراني، وسقوط نظام الأسد، وفقدان السيطرة على محاور إمداد حيوية كالمطار والمعابر.
حرب قيد التأجيل؟
تشير المعطيات إلى أن حرباً شاملة ليست مطروحة بجدية لدى الطرفين في الوقت الراهن. فإسرائيل تعتمد سياسة “القضم البطيء”، بينما يلتزم “حزب الله” بضبط النفس، لتفادي مواجهة لا تخدم مصالحه في هذا التوقيت المعقّد.
لكن الخطر يبقى قائماً، إذ يمكن أن يؤدي خطأ غير محسوب، أو عملية اغتيال رفيعة المستوى، أو حتى رد فعل ميداني مباغت، إلى إشعال مواجهة أوسع لا يمكن احتواؤها بسهولة.
الانقسام الداخلي
داخلياً، يبرز الانقسام الحاد حول مسألة السلاح والسيادة. فالرئيس نواف سلام، في تناغم مع خطاب رئيس الجمهورية جوزاف عون، يؤكد ضرورة حصر السلاح بيد الدولة ورفض منطق الدويلة. في المقابل، يتمسك “حزب الله” بشروطه الصارمة، ويعتبر أن أي حديث عن نزع السلاح خارج إطار “التحرير الكامل” هو طرح غير واقعي.
ويبدو أن الحزب يعتمد مقاربة براغماتية، إذ يُبقي قنوات الحوار مفتوحة مع القصر الجمهوري، في حين يتريّث في مقاربة العلاقة مع السراي الحكومي، خصوصاً في ما يتعلق بملف إعادة الإعمار وصندوق المساعدات الدولية.
زيارة أورتاغوس: ضغوط مشفّرة وشروط واضحة
التحرك الديبلوماسي الأميركي المقبل يحمل الكثير من الرسائل. فالزيارة المرتقبة للمبعوثة مورغان أورتاغوس إلى بيروت تسبقها جولة إقليمية تشمل السعودية والامارات، وسط معلومات تفيد بأنها ستحمل إلى المسؤولين اللبنانيين “سلة شروط” واضحة، أبرزها:
نزع سلاح “حزب الله” أو تحديد جدول زمني لذلك.
ترسيم الحدود مع سوريا وإسرائيل.
تنظيم أوضاع اللاجئين الفلسطينيين والسوريين.
الانخراط في مسار سلام إقليمي تدريجي.
إطلاق مشاريع إعادة إعمار بإشراف دولي صارم.
وعلى الرغم من أن السفارة الأميركية لم تؤكد موعد الزيارة رسمياً، إلا أن الحديث عنها في الأوساط السياسية يُشكّل بحد ذاته عامل ضغط إضافياً على الحكومة اللبنانية.
لبنان في مرمى الحسابات الإسرائيلية
ما يجري في الجنوب اللبناني لا يُقرأ فقط من زاوية الردع والخروق، بل من زاوية أعمق ترتبط بتحولات إقليمية متسارعة وصراعات إسرائيلية داخلية. فنتنياهو، المحاصر بالأزمات، يحتاج إلى جبهة متأهبة تقيه الانفجار في الداخل. ولبنان، بما يملكه من هشاشة بنيوية، يبدو المرشّح الأكثر قابلية للعب هذا الدور.
أما بيروت، فهي أمام لحظة مفصلية: إما التقاط الفرصة لإعادة فرض السيادة وفق معادلة متوازنة، أو التفرّج على تفكك الجنوب مجدداً إلى ساحة لتصفية الرسائل المتقاطعة. الهدنة في غزة قد تكون منحت الجميع وقتاً مستقطعاً، لكن انفجار الساحة اللبنانية لا يزال احتمالاً واقعياً، إن لم يُضبط المسار الوطني قبل أن تُفرض الشروط من الخارج… بالنار.