كيف قفزت سوريا إلى واجهة الأحداث بهذه السرعة؟ ولماذا يلازم الجمود واقع لبنان على الرغم من أنّه لم يشهد حرباً شاملة كتلك التي عصفت بجاره منذ 2011؟
أوّلاً: سقوط النّظام مقابل استمرار البنية المأزومة
بدأ التحوّل في سوريا من نقطة الصفر. بعد سقوط نظام بشّار الأسد في كانون الأوّل 2024، برز أحمد الشرع ليطرح نفسه زعيماً لمرحلة انتقالية تقطع جذريّاً مع الماضي، إن على صعيد الأجهزة الأمنيّة، وتركيبة الحكومة، أو الدستور نفسه وأولويّات إعادة بناء الدولة ومؤسّساتها.
في لبنان، لم يسقط النظام. أمّا ميزان القوى الحاكم للمنظومة الذي شهد تعديلاً عميقاً، فلم يرقَ إلى تحرير الحياة السياسية تماماً من قواعد اللعبة القديمة، حتّى في ظلّ انتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للحكومة وتشكيل حكومة، لم يكن أيّ منها متيسّراً قبلاً. فقد نجحت الدولة العميقة، لا سيما في الطائفة الشيعية، التي صارت الطائفة – النظام، منذ انقلاب السابع من أيّار 2008، في حماية موقعها ضمن نظام المحاصصة الطائفية. وهي تلعب من هذا الموقع المُعاد إنتاجه لعبة تعطيل القرارات السيادية، أو تنفيذ إصلاحات جذرية.
لبنان، فلا يزال في نظر العواصم دولة مستنزَفة، غير قابلة للإصلاح، تُدير الانهيار بدل أن تعالج أسبابه الرئيسية وعلى رأسها سلاح “الحزب”
ثانياً: خطاب المصالح لا الأيديولوجية
أحمد الشرع، المتحدّر من خلفيّة جهادية، أدرك أنّ صيانة إمساكه بالسلطة تقتضي الانفصال عن الخطاب العقائدي والانتقال إلى أقاصي الواقعية السياسية. فخاطب الخليج بلغة الاستثمار والاستقرار. زار الرياض وأبوظبي والدوحة ومصر والأردن والكويت، حاملاً خطاباً جديداً يتعامل مباشرة مع هواجس هذه الدول. ثمّ التقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أيّار 2025، بوساطة سعوديّة، وهو ما فتح الباب أمام رفع تدريجيّ للعقوبات عن بلاده.
سوريا
الأهمّ أنّه بعث تجاه إسرائيل بكلّ الرسائل المطمئنة التي تُخرج دمشق عمليّاً من موقع المحور الإيراني إلى صفّ الاعتدال العربي ومشروع السلام والتطبيع، متجاوزاً واقع الانتهاكات الإسرائيلية الصارخة للسيادة السوريّة.
في المقابل، لا يزال لبنان محكوماً بخطاب مزدوج: حكومة تطلب المساعدات من الخليج، بينما يبقي “الحزب” الأبواب مفتوحة أمام إعادة إنتاج “الدور المقاوم” للبنان جاعلاً من المرحلة الراهنة مجرّد استراحة محارب جريح، لا صفحة جديدة تطوي ما قبلها. يبدّد هذا الفارق مخزون الثقة العربية بلبنان، ويشجّع على توجيه الموارد نحو سوريا، التي باتت تُقدَّم طرفاً “عاقلاً” وأكثر انسجاماً مع مصالح الإقليم، بالإضافة إلى كونها دولة أكبر وأهمّ من لبنان.
لا يجوز مثلاً تأجيل النقاش في مسألة سلاح “الحزب” بحجّة وجود خمس نقاط محتلّة من إسرائيل. فالواقع أنّ هذا السلاح هو ما أدّى إلى احتلال تلك النقاط، التي لم تكن محتلّة قبل أن يفتح “الحزب” جبهة الجنوب.
ثالثاً: تحالفات استراتيجيّة جديدة
تشكّل سوريا اليوم نقطة التقاء لتحالف ثلاثي غير مسبوق: الولايات المتّحدة، السعوديّة وتركيا، بالإضافة إلى أدوار مهمّة للإمارات وقطر، وتوفّر ضمانات معقّدة تلجم إسرائيل عن تشكيل تهديد مباشر للنظام في دمشق. تنهض على أساسات هذا التحالف اتّفاقات استثمارية كبرى بقيمة 7 مليارات دولار، لتشييد محطّات كهرباء غازيّة وشمسيّة، تشمل خمس محافظات سوريّة، أُعلِنت بحضور المبعوث الأميركي توماس باراك، بموازاة إعلان وزارة الخزانة الأميركية رفعاً جزئيّاً للعقوبات.
تشكّل سوريا اليوم نقطة التقاء لتحالف ثلاثي غير مسبوق: الولايات المتّحدة، السعوديّة وتركيا، بالإضافة إلى أدوار مهمّة للإمارات وقطر
في خطوة تُعدّ الأولى من نوعها بعد رفع العقوبات الأميركية عن دمشق، وقّعت الهيئة العامّة للمنافذ البرّية والبحرية السوريّة مذكّرة تفاهم مع شركة “موانئ دبي العالمية” بقيمة 800 مليون دولار، تهدف إلى تطوير البنية التحتية للموانئ والخدمات اللوجستية في سوريا، بدءاً بمحطّة متعدّدة الأغراض في ميناء طرطوس، لرفع كفايته التشغيلية وتعزيز موقعه ليكون محوراً إقليمياً للتجارة. ويشمل الاتّفاق أيضاً التعاون في إنشاء مناطق صناعية ومناطق حرّة وموانئ جافّة ومحطّات عبور للبضائع في مواقع استراتيجية داخل البلاد.
لبنان، في المقابل، لا يملك أيّ تحالف استراتيجي مماثل. فرنسا عاجزة عن التأثير، في حين أنّ ثقة الولايات المتّحدة تتناقص بسرعة، والخليج لا يرى فائدة من ضخّ الأموال في نظام لا يزال خاضعاً للتسويات مع “الحزب”، على الرغم من تحطيمه وسقوط نظام الأسد.
الأخطر أنّ لبنان يفتقر إلى تصوّر شامل ورؤية هادفة لدمج لبنان بالتكتّلات الاقتصادية الكبرى في الإقليم، دعك عن غياب مسار زمني محدّد لتنفيذ شروط صندوق النقد الدولي، ومعالجة قطاع الخدمات الرئيسية.
الحاجة إلى قرارات تاريخيّة
من يتابع الإعلام الخليجي والدولي، يلاحظ أنّ صورة سوريا تغيّرت خلال أشهر قليلة. باتت تُقدَّم كحالة تستحقّ الرهان: رئيس جديد، نبرة معتدلة، انفتاح على الأقلّيات، وإن شابته بعض العثرات، ومشاريع ملموسة، تُخرج سوريا عمليّاً من محور وتُدخلها في محور آخر معاكس.
بدأ التحوّل في سوريا من نقطة الصفر. بعد سقوط نظام بشّار الأسد في كانون الأوّل 2024
أمّا لبنان، فلا يزال في نظر العواصم دولة مستنزَفة، غير قابلة للإصلاح، تُدير الانهيار بدل أن تعالج أسبابه الرئيسية وعلى رأسها سلاح “الحزب”.
لن يخدم لبنان التذرّع بالمظلوميّة، ولن يعفيه الواقع السياسي، أيّاً تكن صعوبته، من حتميّة القرارات التاريخية التي عليه اتّخاذها، وفي مقدَّمها القطيعة مع المحاصصة وعقليّة المعونات، وإنهاء الدور العسكري والأمنيّ لـ”الحزب”، ومخاطبة العالم بلغة واحدة. وإلّا، فإنّ لبنان سيتحوّل من دولة مأزومة إلى دولة منسيّة، تنتظر حلّ مشكلات المحيط من دون أن تفكّر في معالجة أزماتها بأعلى ما تسمح به الظروف من استقلالية.
إقرأ أيضاً: مورغان أورتاغوس: السّخرية كأداة دبلوماسيّة في لبنان
فيما تعيد دمشق رسم خرائطها، تغامر بيروت بأن تُطوى من خريطة الاهتمام.