ملخص
يحذر وزير الخارجية الأوكراني السابق من أن ضغوط ترمب لعقد اتفاق سلام سريع في أوكرانيا تتجاهل واقع الصراع، إذ ترفض كييف التنازل عن سيادتها فيما يواصل بوتين سعيه للهيمنة، مما يجعل وقف إطلاق النار حالياً وهماً خطراً لا يبشر بالسلام بل بكارثة محققة.
منذ تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال يناير (كانون الثاني) والعالم مشدوه بإمكانية وقف إطلاق النار في أوكرانيا. ومن السهل إدراك السبب، فقد عدَّ انتخاب رئيس أميركي يسعى إلى لعب دور الوسيط في أوكرانيا بدلاً من الداعم لها فرصة لكسر الجمود ووقف إراقة الدماء.
بيد أن التحرك الدبلوماسي الفعال في ظل الحرب يتطلب استخدام القدر المناسب من التأثير والنفوذ –العصي والجزرات– على الأطراف المعنية وتحت ضغط زمني. وأدخل ترمب العامل الأخير عبر وعده بتحقيق نتيجة سريعة، وعندما ثبت استحالة هذا الأمر، قام بطريقة غير ناجحة مهدداً بالانسحاب الكلي من المفاوضات، غير أنه فشل في استخدام الحوافز والعقوبات بصورة متوازنة، إذ وجه كل الضغوط نحو الدولة المعتدى عليها، بينما خص المعتدي بالحوافز كلها. وجرد حملة ضد أوكرانيا، محملاً إياها مسؤولية الحرب، كما أنه في مرحلة ما علق الدعم العسكري لجيشها فيما امتدح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ونتيجة لذلك، لم يقترب العالم من مفاوضات ذات مغزى أكثر مما كانت عليه الحال عند فوز ترمب في الانتخابات الأميركية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2024. لقد شهدت الدول كثيراً من رسائل موسكو المؤيدة لترمب إلى انفتاح كييف على الحوار ومساعي أوروبا للتقارب مع واشنطن وكل ما دار من دبلوماسية مكوكية، بيد أن هذه الأمور كلها لم تكن جسوراً لبلوغ السلام بقدر ما كانت محاولات لاسترضاء الرئيس الأميركي، فالهدف لم يتمثل في إنهاء الحرب، بل في تقريب ترمب أكثر من أحد الطرفين، ووقف انزلاقه نحو الطرف الآخر.
ومع ذلك، كانت مهمة ترمب محفوفة بالصعوبات منذ البداية. فالحقيقة الصارخة تفيد بانتفاء الحوافز الفعلية عند روسيا كما عند أوكرانيا لوقف القتال، إذ إن موسكو شيدت اقتصاداً حربياً يسمح لها بمواصلة القتال، ويصعب وقفه. وأوكرانيا في المقابل ليست في وارد التنازل عن سيادتها، وجيشها يبقى قوياً بما فيه الكفاية لمواصلة الدفاع بفعالية. لذا وفي النتيجة يبقى وقف النار في أوكرانيا مستحيلاً خلال الوقت الراهن.
لا أوراق رابحة
انقسم أصدقاء أوكرانيا في الغرب منذ فترة طويلة في تقييمهم لما تريده روسيا. إذ وفقاً لبعض، يسعى بوتين لتحقيق أجندة محدودة وهو بالتالي سيكتفي بمكاسب محدودة. فقد يرضى الكرملين مثلاً، بناءً على هذا المنطق، باتفاق يقر بأن الأجزاء المحتلة من أوكرانيا هي أجزاء روسية بحق، ويضمن عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو. آخرون يختلفون بشدة مع هذا الرأي، إذ إن استرضاء بوتين برأيهم، لن يؤدي إلا إلى تشجيعه في الاستمرار بسياساته. فالرئيس الروسي يسعى للسيطرة على أوكرانيا بأكملها، التي لا يمكن التوفيق بين قيامها كدولة مستقلة ورؤيته لدوره في التاريخ. ويعزز أصحاب هذا الرأي رؤيتهم باقتباس مقال بوتين قبل الحرب “حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين”، والذي أنكر فيه وجود هوية أوكرانية مستقلة، معتبراً الأوكرانيين “روساً ضالين” يجب إعادتهم إلى كنف موسكو. وكرر بوتين في تصريحاته حول مفاوضات السلام أن أية تسوية يجب أن تعالج “جذور النزاع”، أي القضاء على سيادة أوكرانيا.
بعض صناع القرار في الغرب يدركون هذه الحقيقة، لكنهم يرون أنه كلما طال أمد الحرب غدا موقف أوكرانيا أضعف، وزادت احتمالات اضطرارها في نهاية المطاف إلى تقديم تنازلات. ومن هذا المنطلق، من الأفضل قبول صفقة سيئة الآن على صفقة أسوأ لاحقاً. ترمب نفسه يبدو مؤيداً لوجهة النظر هذه، إذ قال للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال فبراير (شباط) الماضي “أنتم لا تملكون الأوراق الرابحة”.
كييف تعتقد أن لديها متسعاً من الوقت لتعزيز موقفها
هذا السياق من التفكير قد يبدو عقلانياً. إلا أنه يسيء قراءة الواقع الأوكراني. بوسع كييف بالتأكيد أن تملك أوراق أفضل، لكن أوكرانيا ليست يائسة إلى الحد الذي يضطرها الآن إلى تقديم تنازلات. فهي راهناً تعتمد على أوروبا لحمايتها من التغيرات الكبيرة المحتملة في مسار الحرب نتيجة تراجع الدعم العسكري الأميركي. وتدرك أوكرانيا أيضاً أن الوضع على الخطوط الأمامية ليس كارثياً كما يرى بعض. فخلال شهر ديسمبر (كانون الأول) 2023، كانت روسيا تسيطر على قرابة 109 آلاف كيلومتر مربع من الأراضي الأوكرانية. وخلال ديسمبر 2024 لم ترتفع نسبة الأراضي التي تسيطر عليها روسيا إلا بمقدار طفيف لتصل إلى قرابة 113 ألف كيلومتر مربع. ومنذ ذلك الحين بقيت المساحة التي تسيطر عليها روسيا دون زيادة أو نقصان فعلياً، إذ إن روسيا اعتباراً من أواخر مايو (أيار) الماضي تسيطر على قرابة 113053 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الأوكرانية.
الخبراء المعنيون بالشأن الأوكراني تابعوا أخبار سيطرة الجيش الروسي على قرى ومناطق صغيرة. لكن لو عاينا الأمور من منظار أوسع قليلاً فإن البلد الذي يفترض امتلاكه الأفضلية لم يسيطر طوال أكثر من 16 شهراً إلا على 4273 كيلومتراً مربعاً من إجمال مساحة أوكرانيا البالغة نحو 600 ألف كيلومتر مربع، أي إن نسبة الأراضي التي تحتلها روسيا ارتفعت من 18 في المئة أواخر عام 2023 إلى نحو 19 في المئة فقط اليوم. ولهذا، ترى كييف أن لديها متسعاً من الوقت لتعزيز موقفها، سواء دبلوماسياً أو عسكرياً.
هناك بطبيعة الحال عوامل تتخطى تقدم روسيا على الأرض يمكن أن تغير حسابات أوكرانيا، بما فيها تحول حقيقي عند موسكو نحو أهداف أكثر محدودية. وموقف كييف أيضاً قد يتضعضع إن فشلت أوروبا في تقديم الأسلحة اللازمة للتعويض عن غياب الإمدادات الأميركية، وأيضاً إن انهارت الدفاعات الجوية الأوكرانية دون إمدادات الأسلحة الاعتراضية الأميركية من طراز “باك 3” PAC-3 (والتي تعد من أبرز أوراق الضغط لدى ترمب). وقد تبدأ كييف التفكير في تقديم تنازلات إن تعرضت بنيتها التحتية المدنية لمزيد من الدمار. بوتين يدرك ذلك، ولهذا يكثف هجماته بالصواريخ وأسراب الطائرات المسيرة أكثر من أي وقت مضى.
لكن حتى الآن لا تزال الدفاعات الجوية الأوكرانية صامدة. ومن جهتها، تعلن أوروبا عن مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا كما تزيد من استثماراتها في صناعاتها الدفاعية داخل أنحاء القارة. وعلى رغم عدم تحقيق الجيش الروسي أية اختراقات مهمة على الأرض، لم يصدر عن بوتين أي مؤشر إلى تخليه عن أهدافه المطلقة. لذا من المستحيل لترمب –أو أي شخص آخر– أن يدفع أوكرانيا نحو عقد اتفاق غير موات لا تعتقد أن روسيا ستلتزم به.
جبهة ثانية
إخفاقات ترمب في الملف الأوكراني لا تعني بالضرورة أن سياسته تجاه روسيا لن تكون لها تبعات أمنية خطرة. فتبنيه لموسكو وتراجعه عن دعم أوروبا يدفع القارة نحو مزيد من الاستقلالية، لكنه في الوقت ذاته يترك شعوبها أكثر عرضة للخطر. وتعمل الدول الأوروبية على تطوير جيوش أقوى وإعداد قاعدة صناعية دفاعية أفضل، بيد أن ذلك لا يتم بالسرعة الكافية لتلبية الحاجات الخاصة بالقارة أو حاجات أوكرانيا. وعلى رغم أن ترمب صرح بأنه لا يعتزم الانسحاب من الناتو، فإن عداءه العلني لأوروبا وتاريخه في سحب القوات الأميركية من الحروب الخارجية، من الصعب أن نتصور جنوداً أميركيين يموتون من أجل أوروبا.
هذا المزيج من العوامل قد يغري بوتين بمهاجمة حليف للناتو في أوروبا. وبخلاف ما حدث في أوكرانيا فإن هدفه الأساس لن يتمثل بإخضاع البلد الذي يهاجمه، بل فضح ضعف أوروبا وكشف زيف التزام الناتو بمبدأ الدفاع الجماعي، بيد أن الأعوام القليلة المقبلة قد تشكل الفرصة الأمثل للتوغل في أراضي الناتو قبل أن تقوم أوروبا وبفعالية بسد ثغراتها الدفاعية، وقبل أن يحل في مكان ترمب رئيس أميركي آخر يهمه أمر هذه القارة.
لدى موسكو القدرة على فتح جبهة حربية جديدة فيما تواصل قتالها ضد كييف. وأجرت عملية حشد لقواتها على طول حدود روسيا مع فنلندا والنرويج تحاكي ما فعلته على طول الحدود الأوكرانية في ربيع عام 2021. وازدادت روسيا عدوانية في بحر البلطيق. وأعلنت خلال الآونة الأخيرة عن تدريبات مشتركة واسعة النطاق مع بيلاروس.
لقد أثبت بوتين استعداده لإثقال شعبه بأعباء لا يمكن لمعظم البلدان تصورها، وذلك سعياً لتحقيق أهدافه العسكرية. وهو يقيم علاقة متينة مع الصين، فيما يعاني معسكر حلفاء أوكرانيا من تباين في الرؤى في شأن أهداف روسيا النهائية. كما أن الرئيس الروسي يدير اقتصاد حرب، بالتالي قد يكون بصدد التحضير لخوض حروب متزامنة بأحجام مختلفة.
وقف إطلاق النار الذي يبدو في الأفق ليس بارقة أمل بل كارثة
أوروبا من جهتها فرضت على موسكو حزمة عقوبات ذات قيمة سياسية ومالية، بغية ردع العدوانية الروسية. لكن بغض النظر عن مدى رضا الاتحاد الأوروبي تجاه كل قيود جديدة على موسكو، فإنه يبقى غير قادر على شل آلة الحرب الروسية بمفرده. من المشجع طبعاً أن يقوم الاتحاد بتكثيف حملته على أسطول ناقلات النفط الموازي الذي تستخدمه روسيا للتهرب من العقوبات، إلا أن هذا لن يؤدي إلى انخفاض أسعار النفط الروسي بمستوى كاف لإحداث فارق كبير.
إذ إن بوتين قد يبدأ تغيير رأيه في شأن الاستمرار بالقتال إن رأى انهياراً متواصلاً في سعر النفط الروسي، مما سيحرم اقتصاده الحربي من موارده المالية. لكن إحداث هكذا انهيار يتطلب مشاركة فعالة من جانب الولايات المتحدة، التي لديها تأثير ونفوذ في السوق الدولي. وستحتاج واشنطن في هذا السياق إلى فرض عقوبات أقسى على قطاع النفط الروسي، وإلى إقناع السعودية، أحد أكبر موردي النفط في العالم، والهند أحد أكبر مستهلكي النفط الروسي، بالانضمام إلى هذه الجهود. من ثم فإن هكذا تحالف سيحتاج إلى إقناع الصين بعدم التدخل، وذلك جزئياً عبر إظهار أن الهدف المرجو من تلك الجهود يتمثل بإنهاء الحرب، وليس إنهاء روسيا. وهنا تبدو الرياض في الموقع الأمثل لمحاولة القيام بذلك نظراً إلى علاقتها الوطيدة بكل من الصين والولايات المتحدة الأميركية.
لكن هذه الخطوات كلها تبدو مستبعدة إلى حد كبير. فترمب شدد لهجته تجاه بوتين لكنه لم يعط أية إشارة تظهر استعداده لاتخاذ إجراءات قوية ضده. أما الهند والسعودية في الأثناء فليس لديهما أية رغبة بالتحرك ضد الكرملين على هذا النطاق الواسع. وذاك يعني بوضوح أن بوتين سيستمر في جني ما يكفي من تجارة النفط لتمويل جهود الحرب، وربما ليس فقط في أوكرانيا.
وهكذا يبدو أن عصر السلام في أوروبا انتهى. فالحرب في أوكرانيا مرشحة للاستمرار أكثر من توقفها. ليس لدى بوتين أي سبب للتوقف، وليس لدى زيلينسكي أي سبب للاستسلام، لأنه يعتقد أن التنازل عن جزء من أوكرانيا الآن قد يؤدي بكييف في نهاية المطاف إلى خسارة البلاد كلها. بالنسبة إليه وفي ظل هذه الظروف، فإن وقف إطلاق النار في نهاية النفق لا يبدو بارقة أمل بل كارثة مميتة. لا شيء محتوم سوى الموت. لا يزال بإمكان ترمب وغيره تغيير آرائهم وتكتيكاتهم. لكن الأمر الأمثل الذي يمكن للأوروبيين أن يفعلوه الآن هو تسريع جهودهم لتسليح كييف، وأنفسهم.
دميترو كوليبا شغل منصب وزير الخارجية الأوكرانية بين عامي 2020 و2024.
مترجم عن “فورين أفيرز”، الـ30 من مايو 2025