ملخص
صدرت حديثاً رواية “ليس بعيداً من رأس الرجل” (عزيزة ويونس) للكاتب المصري سمير درويش، عن دار “بتانة” للنشر في القاهرة. تتقاطع في الرواية الأحداث الواقعية والفانتازية والسيرة الشعبية والتأملات الذهنية بغية طرح أسئلة عميقة في شأن حقيقة الحياة والموت، وفهم طبيعة التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها مصر في مرحلة الثورات العربية.
ليس عبثاً أن يرسم فنان تشكيلي لوحة بيضاء تماماً، فهذا الأبيض السحري الذي توصل إليه بعد طول عناء هو مجموع الألوان الأساسية، وهو جوهر الموت. هل تتوقف حياة الإنسان في هذه اللحظة التي يرى فيها بياض لوحته، أم ستستمر حياته في لوحة ذاكرته النشطة، وفي خيالات الآخرين؟
يفتتح الكاتب المصري سمير درويش روايته الجديدة “ليس بعيداً من رأس الرجل” (عزيزة ويونس)، الصادرة في 333 صفحة عن منشورات “بتانة”، بحالة من البياض المربك تنتاب بطل روايته المحوري “يونس”، الفنان التشكيلي، ابن إحدى قرى النيل الفقيرة النائية في ستينيات القرن الماضي، الذي عاش صباه ومراهقته في قريته، وأمضى دراسته الجامعية في مجتمع وسط البلد في القاهرة طالباً في كلية الفنون الجميلة، وانتقل بعدها لبعض الوقت إلى نيويورك ليحصل على درجة الدكتوراه في أطروحته عن النحات الرائد محمود مختار، قبل أن ينتهي به المطاف إلى العودة النهائية إلى مصر.
الرواية الجديدة ( منشورات بتانة)
تتقافز تساؤلات البياض كلها في مستهل الرواية أمام عيني يونس وهو يواجه مصيره مقتولاً برصاصة أطلقها قناص مدرب صوب رأسه مباشرة في ميدان التحرير، في موقعة الجمل يوم الثاني من فبراير (شباط) 2011، حيث انقض المهاجمون والمسلحون الذين يمتطون الخيول والجمال والبغال على المتظاهرين وثوار الـ25 من يناير (كانون الثاني) لإجبارهم على إخلاء الميدان وفض الاعتصام.
لعبة البياض
يدير الراوي لعبة البياض هذه بكل غموضها وإثارتها وتشويقها، لتكون تلك اللحظة الفارقة الثقيلة على القتيل وكأنها دهر، بمثابة قراءة للحياة بالكامل من ثقب الموت أو من خلف ستاره المنسدل. يسترجع يونس وهو يذوب في المشهد الأسطوري الذي يشبه غزوات العصور الوسطى، شريط حياته الشخصية الماضية، ويستدعي تفاصيل علاقاته المتشعبة مع الشخصيات الأخرى، النسائية على وجه الخصوص، بداية بـ”عزيزة”، عشقه الأول في القرية، ونصفه الثاني في ملحمة “يونس وعزيزة” الشعبية الشهيرة الواردة في السيرة الهلالية.
يظلم العالم تدريجاً في عيني يونس، ولا يعني ذلك إلا تكثيف البياض أمامه “يرى بياضاً يزحف ببطء، ويلون الناس والفراغ والأرض والسماء. يرى جسده ريشة خفيفة يحملها الهواء، تتراقص بخفة، تعبر حجباً وموانع وتفاصيل وحكايات، تدخل في البياض المترامي، اللانهائي”. تتداخل لديه الأحداث الحقيقية والخيالية والكوابيس والأوهام، ولا تغيب الآمال أيضاً، إذ ربما تكمن حياة أخرى جديدة بعدما يتوقف نزف الدم الساخن على وجهه المتجمد من الرعب.
سمير درويش (دار بتانة)
في هذه اللحظة المفتاحية، التي نفذت فيها الرصاصة من جمجمته، وقع يونس على الأرض تحت الأقدام، “وذهبت أصابعه إلى موضع الألم دون إرادته. لمس فتحة النفق الذي صنعته، ولمس الدم المتدفق الساخن، ثم سقطت يده عن وجهه، سقطت إلى جواره على إسفلت الميدان. آخر ما يتذكره ملمس بقعة دم ليست بعيدة من رأسه، دم لزج متدافع. وقتها سمع الصرخة: “يووونس، آخر صوت سمعه على الأرض قبل أن يصعد”.
تشعب اللحظات والأمكنة
تكسر الرواية حاجز التسلسل الزمني مثلما تزيل الفواصل بين الوقائع والأساطير، وتتشعب لحظة الموت إلى نوافذ شتى يطل منها يونس على ذاته وعلى معشوقاته وعلى المحيطين به في توقيتات وأمكنة متباينة وفق ما يتراءى له، في ظل فوضى عارمة تكسب الفضاء الروائي تحرراً وانسيابية. تعكس هذه اللقطات والمشاهد المتناثرة التحولات الاجتماعية والنفسية التي يمر بها يونس ومن حوله، وتتوزع النثارات بين أمكنة ثلاثة رئيسة: القرية النائية، والقاهرة، ونيويورك. ولكل مرحلة عاشها يونس بطلاتها اللاتي ارتبط بهن عاطفياً في رومانسيته، وجسدانياً حال تأجج رغبته. وتبلور هذه التنقلات بين الأمكنة التضاد بين الحياة الريفية البسيطة وبين الحياة المعقدة في المدن الكبرى، كما تظهر التباينات بين الثقافتين الشرقية والغربية.
تبرز الرواية هذه التناقضات الواضحة في الأمكنة. فمن المجتمع الريفي، حيث الجذور والأصالة، إلى المجتمع الشعبي في القاهرة بصخبه وتنوعه، ومن مجتمع الفنانين في كلية الفنون الجميلة بحيواته الإبداعية، إلى المجتمع الأميركي، حيث سافر البطل إلى نيويورك لاستكمال الدراسة، بحثاً عن آفاق جديدة. هذه الأمكنة ليست مجرد خلفيات للأحداث، بل هي فاعلة ومؤثرة في تشكيل وعي الشخصيات وسلوكهم. كل مكان يحمل في طياته بطولته الخاصة، ويعكس جانباً من جوانب التجربة الإنسانية، ويظهر كيف تتأثر الشخصيات بالبيئة المحيطة بها، وتتغير هويتها مع تغير المكان.
ثمرات العشق واللغة
يتأرجح يونس ممزقاً بين الأمكنة الثلاثة (القرية – القاهرة – نيويورك)، التي يجد نفسه منتمياً إلى كل منها، من دون أن يشعر بالاستقرار. وهذا القلق الدائم الذي يستولي عليه، يعادله تخبطه أيضاً في علاقاته النسائية، وتذبذبه بين المثالية الروحانية والمادية الغرائزية، حيث تحمل عزيزة الريفية (أيقونة العشق العذري والتضحية في السيرة الشعبية) رائحة البكارة ومذاق البدايات.
رواية “الإمام” تواجه جريمة محو الذاكرة الفلسطينية
رواية مجهولة للشاعر مجدي نجيب تؤرخ للأغنية المصرية
وعلى الجانب الآخر، تكسبه نساء المدينة المتعددات من شرائح اجتماعية وثقافات متفاوتة معاني أخرى أكثر تعقيداً، على مستوى العقل والجسد في آنٍ. وهذه التجارب المعقدة هي التي يجد نفسه متعطشاً إليها كرسام يفتش عن “الموديل” الواعية المعبرة، وكرجل محروم يلهث خلف النضج الأنثوي التحرري على كل المستويات، ومن ثم فإنه يخوض تجاربه بقوة واندفاع وتوق إلى الاكتشاف، على رغم عدم رضاه أحياناً عن استهلاكيتها وزوالها. وتعرض الرواية النساء ليس فقط كضحايا اجتماعية، بل ككيانات متحققة تمتلك الإرادة والطموح، وتسهم في صياغة التاريخ الشخصي للبطل المركزي.
تستلهم الرواية الموروث الشعبي ليس من خلال نسخه حرفياً، بل عبر تجديده وتفسيره من منظور معاصر متشابك، مما يمكن من إبراز الفروق بين الشخصيات والمجتمعات المختلفة، وترصد التغيرات والتطورات التي تطرأ على البشر وعلى المواقف والحالات الدرامية والصراعية. ولا يتخلى المؤلف عن لغته الشاعرية المحملة بالرمزية والطبقات الدلالية المتعددة، ونزعته الفلسفية المتعمقة في النظر إلى الأمور وتحليلها، لا سيما في تقصيه الانقسامات والتوترات الداخلية في النفس الإنسانية، وطرحه القضايا والتساؤلات المتعلقة بحقيقة الحياة والموت ومغزى الوجود وما إلى ذلك، حيث ترتقي لغة الحديث اليومي لتصير في بعض الأحيان حوارات وجودية.
رسم اللوحة الثورية
تلقي الرواية الضوء أيضاً بتوسع كافٍ على التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها مصر في مرحلة الثورات العربية وما قبلها، في محاولة لفهم دوافع ثورة يناير 2011 وطبيعتها (عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية)، والعوامل التي أدت إلى وأدها في مهدها. ويطرح المؤلف على ألسنة يونس ورفقاء الميدان الثوري أفكاراً تناقش مفاهيم الهوية الوطنية والاستقلالية وكيفية التفاعل مع واقع سياسي واجتماعي محبط يسوده الفساد والظلم والتفاوت الطبقي. ويمثل اغتيال يونس برصاصة القناص المحترف في ميدان التحرير، في مستهل الرواية، نهاية ميكانيكية لهذه “الحدوتة” قبل أن تبدأ، مثلما قد تموت النار أحياناً وهي لا تزال شرارة أولى، ولكن ما بعد الموت قد يحمل غداً جديداً مشرقاً لمن لا يتوقفون عن التحدي.
يتجاوز الراوي في سردياته الرشيقة السلسة أبجديات الحكي المألوفة، ليلامس ضربات فرشاة الفن التشكيلي في تصوير الشخصيات والمشاهد واللحظات الخاصة التي تعيشها، خصوصاً أن بطل الرواية “يونس” فنان تشكيلي، يتعاطى مع كل فرد وكل شيء من حوله وفق آلية بصرية مدققة، تتخطى الأسطح الخارجية والقشور، نافذة إلى الماوراء.
وأخيراً، وفق عنوان الرواية الدال، فإن هذا العالم الهش يبقى “ليس بعيداً من رأس الرجل” الذي اخترقته رصاصة غادرة، وهو عالم عنوانه الضياع والفقد والحنين إلى ما لم يكن أبداً، فهل عسى هذا الغائب يجيء ذات يوم أو ذات حلم؟