اختبرتُ تجربتي كواحدة من ملايين النساء اللواتي طالهنّ التنميط، ورضختُ لسمة رُسِمَت معالمُها بقداسة بقيت حيّز التنظير؛ رضختُ للأمومة والتعامل مع الأبناء والبنات بعاطفة غزيرة. تلاشت تدريجياً أنايَ وصرتُ أنظر إلى العالم من وجهة نظر الأمومة، ورغم أن لنا هوياتنا الجندرية المتشابهة كنساء لكننا لا نشكل حالة واحدة، إذ أن لنا أوضاعنا الخاصة وولاءاتنا وأهدافنا.
أنا وابنتي وأمي ننتمي إلى ثلاثة أجيال بعناصر انتماء طبقي وقومي وميول جنسية متشابهة، وكذلك تتشابه في علاقتها بظلّ العباءة الأبوية التي لا زالت تحظى بدورها المؤثر حلّاً وربطاً، تستظل بها الكثير من النساء نتيجة اعتقاد بأنها أساس الحماية من الأذى الذي يهددنا في مساحاتنا الضيقة.
تطرقت سيمون دو بوفوار، الكاتبة والنسوية الفرنسية، مطولاً في الجزء الأول من كتابها الجنس الآخر لمفهوم «الأمهات الذكوريات»، وكيف أن بعض النساء يقبلنَ أدوارهنّ كأمهات وزوجات مُطيعات، أولئك اللواتي كنَّ محرومات من التعليم والحرية والإبداع وأشياء لا تحصى، ولهنَّ من المعاناة القهر والاستغلال والعنف حصةٌ كبيرة، وبالرغم من ذلك أصبحنَ متعاطفات مع الرجال إلى درجة تبرير ما يقومون به من ممارسات عنيفة وتمييزية، والنتيجة تكرار المبادئ ذاتها في تربية الأبناء والبنات.
لا يزال مفهوم الأمومة متغيراً ومتجدداً، في العالم بأسره وفي منطقتنا أيضاً، في سيرورة تعكس تاريخاً طويلاً من التجارب والصراعات والانتصارات، وتحتاج إلى دراسات عميقة أكثر تحليلاً لفهم كل جوانبه. ولا بأس مع ذلك بالتطرق لجزء من هذه التجربة الشاقة جداً، تجربة الأمومة من منظور ذكوري في ممارسة الدور بعد مسيرة الحمل والرضاعة والإنجاب، وحمل الإرث «الأمانة الثقيلة»، والتنشئة الاجتماعية.
نجد من الشائع أن تكون الأمهات هنّ من يمنعنَ بناتهنّ من ممارسة أشكال معينة من الأنشطة الحياتية أو مجالات الدراسة أو بعض المهن التي لا تناسب الدور النمطي في مجتمع نظامه أبوي، وهنَّ اللواتي يفضلنَّ الأولاد الذكور على البنات في المعاملة والميراث والتعليم والحرية الشخصية والمأكل والمشرب واختيار شريك الحياة، ويحذّرنَ بناتهنّ باستمرار من الدخول في علاقات عاطفية قد تودي بحياتهنَّ، ويحرصنَ على تبرير سلوك الأب أو الأخ أو الزوج المسيء أو المهين للنساء والسكوت عليه غالباً.
ونلمس سعياً من كثيرات من الأمهات للمبالغة في تلقين بناتهنّ الخضوع والطاعة والسماح والتسامح مع ظلم وإهانة رجال العائلة، ورسم معالم شخصية تليق بالبنات بمقاس واحد هو قيم المجتمع، والضغط على أولادها الصبيان منذ نعومة أظفارهم ليكونوا أقوياء وشجعان قادرين على حمل عبء الرجولة، فلا يسمحنَ لهم بالبكاء تعبيراً عن غضب وحزن لتتجمد المشاعر ويصبح العنف أمثولة، ويحمل هذا الولد درع السلطة ويُصدق نفسه بأنه أمثولة الحماية. لا شكّ في أن الأمهات بحاجة للتحرر من هذا الدور المُشبَع بقيم الذكورية المستبدة المستندة إلى سلطة الأب التاريخية، وبحاجة ماسة لاكتشاف كينونتهنَّ الخاصة الأصيلة كذات قادرة ومستقلة.
تجربة شخصية
أريد التطرق هنا إلى تجربة شخصية بين ممارسة العنف كسلطة ذكورية وبين عبء توريثه للأبناء بالتنشئة الاجتماعية وبرعاية أمومية. أَعيشُ في النمسا منذ 2017، حين حالفني الحظ وكنتُ ممن حصلنَ على الفيزا التي تسمى « لمّ شمل»، والتي تقدَّمَ بها ابني الذي سأتحدث عنه. كان قد سبقني قبلها بسنتين وهو في الخامسة عشر من عمره.
لم يكن من المعتاد أن يرنَّ هاتفي في ساعة مُتقدّمة من الصباح، بداية لم أُميز قطعاً أنه صوت ولدي، لكني أدركتُ إنه صوت إنسان جريح. انتقلَ الوجع في اللحظة ذاتها ووخزَ قلبي، وكأمٍّ أدركتُ أنه صدى لوجعه، لصوت رجولته الجريحة. استطعتُ سماعَهُ وفهم كلماته القليلة بصعوبة: «ماما، لا تخافي، أنا بخير، لكنني في المشفى، تعرضتُ لحادث اعتداء بالسكين، وكسر في الفكين لذا لا يمكنني التحدث، باي ماما».
خارت قواي، حدثَ ما كنت أخشاه، ذاك الولد الذي نجا بأعجوبة إلهية من الموت غرقاً في البحر الذي التهمَ الآلاف من السوريين/ات، ها هو الآن بحماقته ونزقه الصبياني يُعرّض حياته للخطر مجدداً بسبب الإرث الذي ورثه أباً عن جدّ، حين مسّت الغيرة قلبه وظنّ أنه بالعنف والقتال سيحقق إنجازاً لصالح رجولته المجروحة. مضت ساعات ثقيلة حتى استطعتُ الوصول إليه بسبب إجراءات كورونا الحازمة في مستشفيات النمسا، ولاحقاً حين اطمأنَ قلبي وتماثلَ للشفاء، سألته برفق لأتلقى إجابته المتوقعة: ما الذي دعاك للتهور وخوض شجارٍ بمفردك، وفي وقت متأخر من الليل، هذه الحماقة كادت تودي بحياتك؟
نظر إليَّ بإشارة توحي بأنني أستفزّه وردَّ بانزعاج: «وماذا كنت تتوقعين أن أفعل؟ أمضي كديوث؟ إنها فتاتي وتخصني، هل تفهمين هذا يا ماما؟ أتعتقدين بأنني سأسكت وهم يخترقون حدود خصوصيتي ويتجاهلون رجولتي ويمسّون بشرفي؟». تلك الغيرة التي لم تهدأ بالعنف والشجار، إلى أن جاءت رفيقته وجلبت معها تقريراً طبياً يبرئها من «سوء ظنّه بها»، وهي الفتاة التي نشأت في مجتمع أوروبي، على مبادئ المساواة والحرية الشخصية في الاختيار والعلاقات الاجتماعية وطرق التواصل.
كنتُ قد قرأتُ مقالة مترجمة للعربية على موقع الجمهورية للكاتبة النسوية آنيا مولينبيلت بعنوان لاتضرب ، تُشير فيها إلى أن عدداً كبيراً من الرجال يلجؤون إلى العنف في علاقاتهم حين يشعرون بالعجز وقلة الحيلة والعزلة والهجران أو حين يكونون على وشك فقدان زمام السيطرة، وما قالته حنة آرنت بخصوص السلطة السياسية ينطبق كذلك على الرجال الأفراد: «السلطة والعنف لا يتطابقان، بل هما ضدان. يأتي العنف عندما تكون السلطة في خطر».
يحكم الرجل بناء على خلفيته المشابهة أو المستنسخة من ملايين الرجال حول العالم، وهم الذين يشكلون خطراً على حياة النساء، وهم من يتوهمون اضطلاعهم بمهمة حماية النساء. صناعة العنف سمة خاصة بحاملي تلك «الجينات» الاجتماعية، ولكن الأمهات وبالتوارث يلعبنَ لاحقاً دوراً في تنفيذ المشروع الأبوي، وتترتب عليهنَّ أدوار ومسؤوليات وتحديات عموماً. توزيعُ الأدوار الجندرية نابعٌ من القيم الدينية والاجتماعية والثقافية التي حددت مكانة الأم ودورها في تربية الأبناء والحفاظ على التراث والهوية الجندرية، وقياساً بذلك فإن الأمومة أجملُ بالتضحية والعطاء والحب غير المشروط للأسرة وأفرادها، ولن نتطرق إلى الخسارات الصحية الجسدية والنفسية وما يحدثه الحمل والولادة والمهام الرعائية الكثيرة، فذلك موضوع آخر.
أتسائلُ دوماً أي رأس يحمل هذا الفتى الذي كنتُ مسؤولة عن تربيته بنسبة كبيرة؟ وأي أفكار كنتُ أحملها أنا كأم؟ إنها مسألة شديدة الخصوصية حثتني لكتابة شيء ما يخصني جداً، وأثارَ في نفسي مشاعر أقرب للشعور بالذنب من جهة وبالخيبة والأسف من جهة أخرى. نحن الأمهات نحمل جزءاً من تلك المسؤولية التي تعمل في اللاوعي بحكم التلقين الطويل لنا وتقديس قيم مجتمعاتنا، التي تمّت تنشئتنا عليها حين رضعناها مع حليب أمهاتنا التقليديات.
لا يخلو مفهوم الأمومة من التحديات والتناقضات، والحديثُ عن الأمومة أصبح يأخذ مسارات أخرى، خاصة بعد ظهور الحركات النسوية. هناك صوت نسوي يطالب بإعادة النظر في مفهوم الأمومة، وبتحريره من الصور النمطية والسلطة الأبوية التي تُقيّد حرية الأم وإبداعها وطموحها. كثيراً ما يظهر هذا الصوت في الأعمال الأدبية والفنية التي تُسلّط الضوء على مشاكل وآلام وآمال الأمهات أمثالنا، المتأرجحات بين ثقافات متباينة في وضعنا الجديد. تستحضرني هنا مقارنة عبثية للاختلاف بين أمهات مارسنَ أدواراً في مصائر بناتهنّ، حضرت في رواية لا ماء يرويها للكاتبة السورية نجاة عبد الصمد، التي تروي فيها قصصاً لأمهات سوريات. بقيت في ذاكرتي صورتان لنموذجين من الأمهات في بيئة واحدة، إحداهنّ حاولت حماية ابنتها من أن تكون ضحية لجريمة قتل بذريعة الشرف، وبدهاء وحرص على ابنتها وعلى سمعة العائلة، وبالاتفاق مع زوجها، وجدت زوجاً لابنتها التي فقدت عذريتها في علاقة عابرة، ومنحتها فرصة حقيقية للنجاة بحياتها من مصير عنيف.
الفتاة الأولى تنتمي لعائلة ميسورة الحال، وفي النموذج الآخر أمٌّ تنتمي لعائلة فقيرة. لا أدري أي تصنيف يناسب فعلتها، وهي التي سلكت شكلاً عنيفاً ظناً منها أنه الأمثل، واختارت الموت البطيء لابنتها التي شكّت بأمرها بعد أن ظهرت عليها أعراض الحمل بينما كانت تعيش علاقة حب. قامت الأم بطحن الزجاج، وكانت تضعه في طعام ابنتها المريضة التي عاشت وهي تعاني آلام الموت البطيء، وراحت تذوي كشمعة إلى أن انطفأت، ودفنوها مع سرّها دون أن يعلم أحد سبب موتها. بقيت الأم تعيش عذاباتها نتيجة فعلتها وحياتها ومصير ابنتها التي رحلت شابة كونها تحمل جسد أنثى.
ما أحوجنا اليوم للتخلّص من هذا العبء. النساء يخسرنَ حياتهّن ويُعبثُّ بمصائرهنَّ، والرجال يخسرون راحتهم ويعيشون قلق فقدان السلطة التي لن تتحقق ولن تدوم بدون خسارات متوقعة. ما قالته حنة آرنت بخصوص السلطة ينطبق على هذا النموذج، فالمباشرة بفعل العنف نوعٌ من محاولة استحواذ تلك القيمة المهددة بالخسارة. وبالرغم من كل إشكاليات السلطة وسطوتها يراودني سؤال مُلحّ: هل نحن النساء نمتلك فعلاً شجاعة فائقة لنقف في مواجهة مباشرة فنتحدى السلطة بموقعيتنا كأجساد لها تصنيف ما؟ أم المشكلة في أن القلق ينهش ذوي الامتيازات من الرجال خشية فقدان هذه السلطة، فيختارون العنف كوسيلة للدفاع عن مكتسباتهم التاريخية لنظلَّ بالنتيجة في عراك حياتي مستمر؟
من وجهة نظرنا كأمهات معاصرات، ندرك أن الرجال المعاصرين، أو «الآباء» أيضاً، منتبهون للتغييرات الهامة في المجتمع الجديد بتقنياته شديدة التطور، ونتوقع منهم دوراً في التعافي. التغييرات الجديدة أيضاً في الجوانب الاقتصادية تلعب دوراً مهماً، إذ ساهمت في تغيير نمطية الأدوار الجندرية، فبات الأب أكثر قُرباً وتواجداً في منزل الأسرة وأكثر عناية بأفرادها، وباتت الأمهات أكثر تأثيراً بما هو خارج محيط الأسرة، وهذه السمة يجب أن تُفعَّلَ لإحداث التوازن الطبيعي الذي غُيّبَ بسبب بقاء الأمهات في دور الرعاية طوال الوقت على الرغم من صعوبته ومجانيته.
علينا الاعتراف كأمهات بأننا لا زلنا نتخبط في سلوكياتنا غالباً حين تكون الأمور أكثر مساساً بأولادنا وبناتنا، تأكلنا الحيرة ونحن اللواتي عشنَ بين قيم الجدات والأمهات وبين قيمنا التي نحاول ترسيخها من منظورنا. لا زلنا نقف مذعورات من رغباتنا، مترددات ونبحث عن إجابات لأسئلة كثيرة حين تسألنا إحدى بناتنا اليافعات: أين هي شعاراتكنّ؟ لماذا لا يُسمح لنا بالبقاء لوقت متأخر من الليل خارج المنزل، بينما ينعم إخوتنا الشباب بأوقاتهم أحراراً؟ لماذا يحق لهم اختيار شريكاتهم، ويُحَرَّم علينا ذلك؟
النسويات مستمرات في مطالبهنّ بالعدالة الجندرية وهو حقٌ لهنّ، والمجتمع ليس ملكاً لنوع دون الآخر، والمشكلات كالمرض تصيب الجميع، لسنا وحدنا كنساء بأجسادنا الأنثوية من نعاني الأمراض. شعورنا بالغضب والقلق طوال الوقت بسبب ما عشناه من تجارب سيئة، وما نتعرض له من تمييز وعنف يحثّنا لنقف على أوضاعنا كأمهات ونساء وفتيات، ويدفعنا للمطالبة بحقوقنا بقوة والدفاع عن المساواة باعتبارها طريقاً لحياة أفضل للجميع، وللتأكيد على أن الخسارات المتوقعة لجنس يحمل زمام السلطة، ومعها قيم الرجولة بمنظور خاص جداً، ليست إلّا عقدة ذكورية صدئة لن تُحَلَّ إلا بدرجة عالية من الوعي بحجم هذه المعضلة، والتخلي عن هذا العبء المزيف للأبد.
النساء لسنَ بحاجة لحراسة ووصاية بذريعة الحماية من العنف الذي يصنعه الرجال بأشكال شتى طوال الوقت. نحن بحاجة للتصرف في أمور حياتنا كما نشاء دون خوف وقلق، نحتاج فقط أن نتحرر من تلك الأعباء، أن نستعيد عافيتنا، وأن نعيش أنوثتنا بأمان، نمارس أمومتنا بمحبة فائقة، وننشئ قيماً جديدة تحفظ كرامتنا الإنسانية.