من إعادة الإعمار إلى تأهيل قطاعات حيوية كالكهرباء والنفط والسياحة، بدأت الأرقام تتحدث عن نفسها، معلنةً عن قرب عودة سوريا كلاعب اقتصادي قوي في المنطقة. ولكن يبقى السؤال الأبرز: هل ستُسهِم تلك الاتفاقيات الاستثمارية الكبرى في دعم القطاعات الخدمية وتحسين قيمة العملة بما يخدم المواطن السوري؟ وهل ستدفع عجلة التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار إلى الأمام؟
فبعد أسبوعين فقط من رفع العقوبات الدولية عن سوريا، أعلنت موانئ دبي العالمية عن أكبر استثمار في سوريا بقيمة 800 مليون دولار لتطوير ميناء طرطوس. ووفقاً للوكالة السورية للأنباء، فإن الاتفاقية الموقعة تشمل استثماراً شاملاً في تطوير وإدارة وتشغيل محطة متعددة الأغراض في ميناء طرطوس، مما يسهم في رفع كفاءة الميناء وزيادة قدرته التشغيلية، فضلاً عن تعزيز دوره كمحور رئيس لحركة التجارة الإقليمية والدولية.
وتتضمن الاتفاقية إنشاء مناطق صناعية وحرة، إلى جانب موانئ جافة ومحطات عبور للبضائع في مواقع استراتيجية داخل البلاد، في خطوة تهدف إلى دعم الاستثمار الأجنبي المباشر وتحفيز الاقتصاد المحلي.
كما وقعت وزارة الطاقة في الحكومة السورية الانتقالية مذكرة تفاهم مع تحالف من شركات عالمية بقيادة شركة “أورباكون” القابضة القطرية، لتطوير مشروعات كبرى تهدف إلى توليد الكهرباء عبر استثمارات أجنبية تصل إلى نحو سبعة مليارات دولار، بحسب ما ذكرته الشركة القطرية في بيان لها يوم الخميس 29 أيار/مايو.
اقرأ أيضاً: سوريا تقترب من العودة إلى نظام “سويفت” بعد أكثر من عقد من العزلة المالية – 963+
وتشمل مذكرة التفاهم بناء أربع محطات غاز لتوليد الكهرباء تعمل بنظام الدورة المركبة، بإجمالي طاقة يصل إلى 4000 ميغاواط، إلى جانب بناء محطة طاقة شمسية بقدرة 1000 ميغاواط في جنوب البلاد.
وخلال مراسم توقيع المذكرة، التي حضرها رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع والمبعوث الأميركي إلى سوريا توماس باراك، قال وزير الطاقة في حكومة دمشق، محمد البشير: “نعيش اليوم لحظة تاريخية تُشكّل نقطة تحوّل في قطاع الطاقة والكهرباء في سوريا، لإعادة بناء البنية التحتية المتهالكة في هذا القطاع المهم”.
انطلاقة نوعية
يوسف أنور إبراهيم، الأكاديمي والحاصل على الماجستير في السياسات الاقتصادية في الأسواق الدولية من جامعة Central European University في بودابست، المجر، يقول إن الاتفاقيات الاستثمارية التي أبرمتها الحكومة السورية الانتقالية، بقيمة تقدَّر بنحو 7-10 مليارات دولار، تمثل انطلاقة نوعية نحو مرحلة إعادة البناء والتعافي الاقتصادي بعد سنوات من الحرب والتدمير الممنهج للبنية الاقتصادية، وتفتح الباب أمام تعافٍ حقيقي، لكنها تحتاج إلى حكومة اقتصادية رشيدة ورؤية تنموية عادلة تضمن أن ينعكس النمو على حياة الناس لا على مؤشرات دفترية فقط.
ويشير إبراهيم لــ”963+” إلى أن هذه الاتفاقيات ستسهم على المدى القريب والمتوسط في ردم فجوة العجز التمويلي، وتوفير مصادر تمويل بديلة عن القروض والمساعدات المشروطة، خاصة في ظل العجز المالي التراكمي للحكومة، الذي يصعب من دخولها المباشر في التمويل حالياً. كما أنها ستُحفز النمو من خلال رفع الإنتاجية العامة، وتحسين البنية التحتية الداعمة للنشاط الاقتصادي، وتحسين ميزان المدفوعات عبر تقليل الاستيراد وزيادة فرص التصدير.
ومع أهمية رأس المال الأجنبي في هذه المرحلة، يؤكد إبراهيم على ضرورة تشجيع رؤوس الأموال السورية المغتربة للعودة والمساهمة في الاستثمار، بالتشارك مع رؤوس الأموال الأجنبية. كما ينبغي تمكين البرجوازية الوطنية لقيادة النمو عبر الحوافز القانونية والضريبية الملائمة.
وفيما يخص الفائدة التي سيحصل عليها المواطن من هذه الاستثمارات، يوضح إبراهيم أن التركيز على مشاريع البنية التحتية سينعكس إيجاباً على حياة المواطن السوري، من خلال تحسين إمدادات الكهرباء، وخفض تكاليف النقل والخدمات اللوجستية، وخلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة في قطاعات الإنشاء، والصيانة، والخدمات المساندة، إلى جانب توسيع السوق المحلية، وتوفير بيئة محفّزة للقطاع الخاص الوطني للنمو والتشغيل.
وأكد في الوقت نفسه ضرورة تجنب الدعم المباشر وغير المباشر للسلع، لتفادي الهدر والفساد، واستبدال هذا الأسلوب بالتركيز على تحسين دخل المواطن من العمل، وتخفيض الضرائب المباشرة وغير المباشرة على الخدمات والسلع الضرورية، ورفع الحد الأدنى للأجور وربطه بمعدلات التضخم، الذي بات مطلباً أساسياً لضمان استفادة المواطنين من أي نمو اقتصادي.
وفي وقت سابق، أكد وزير الطاقة في الحكومة السورية الانتقالية، محمد البشير، أن اتفاقية الطاقة التي وقعتها سوريا مع تحالف شركات دولية “تمثل بداية لعملية الاستثمار في سوريا، وتشير إلى تحسن جذري في إمدادات الطاقة”، مشدداً على أن “هذه الاستثمارات ستحسّن جودة الخدمة، وتوفّر فرص عمل، وتُسهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية بصورة عامة”.
ويرى رامي القليوبي، الأستاذ الزائر في كلية الاستشراق بالمدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، أن الاستفادة الحقيقية من كل تلك الاتفاقيات تكمن في تطبيقها على أرض الواقع. فعلى سبيل المثال، المؤتمر الذي عُقد قبل سنوات في شرم الشيخ، وأسفر عن الاتفاق على منح عشرات المليارات من الدولارات لمصر، لم تُترجَم إلا نسبة ضئيلة منها إلى مشاريع فعلية.
وفي هذا الإطار يشدد القليوبي لــ”963+” على أن مسار التعافي الاقتصادي في سوريا يتطلب تخطيطاً دقيقاً وإدارة واعية للموارد، ترتكز على تفعيل القطاعات الأكثر قدرة على النهوض السريع؛ حيث يُمثّل كل من القطاع المالي، والزراعي، والطاقي، والصناعي، وقطاع الخدمات الاجتماعية والتجارية، أعمدة أساسية لهذا التعافي. فالنجاح في إعادة تشغيل هذه القطاعات لا يعتمد فقط على الاستثمارات أو التمويل، بل على توافر الإرادة السياسية.
اقرأ أيضاً: مباحثات سورية ـ سعودية لتعزيز الاستثمارات الثنائية وفرص جديدة للتنمية – 963+
هيكلة القطاعات الحيوية
من جانبه، يؤكد علي متولي، الاستشاري الاقتصادي بشركة “آي بي إس” للاستشارات في لندن، لـ”963+” أن الاستثمارات الكبرى، سواء كانت من دول داعمة أو عبر شراكات إقليمية، قادرة على لعب دور محوري في مرحلة التعافي الاقتصادي في سوريا، خصوصاً إذا وُجِّهت نحو القطاعات الخدمية الأساسية التي تمسّ حياة المواطن بشكل مباشر.
وبيّن أن الاقتصاد الكلي السوري منهار بسبب الحرب، والعقوبات، وتراجع الإنتاج المحلي، وفقدان الثقة في النظام المالي، لكن توقيع اتفاقيات استثمارية، خصوصاً مع الحكومة الانتقالية أو جهات دولية داعمة، قد يفتح المجال لإعادة هيكلة قطاعات حيوية مثل الكهرباء، والمياه، والتعليم، والصحة.
أما من ناحية الاقتصاد الكلي، فإن هذه الاستثمارات ستُوجِد سيولة في السوق، مما يُسهم في تحريك الطلب، وتشغيل المشاريع، وخلق فرص عمل حقيقية.
وبحسب متولي، فإن دخول رؤوس الأموال إلى سوريا، سواء في شكل بناء بنية تحتية أو إعادة تشغيل مصانع ومناطق صناعية، قد يُحسّن من قيمة الليرة السورية تدريجياً على المدى المتوسط، نتيجة زيادة الإنتاج المحلي وتراجع الاعتماد على الاستيراد، وبالتالي تقليل الضغط على الطلب على الدولار، بشرط الالتزام بالشفافية وضمان استقرار بيئة الاستثمار.
أما على مستوى المواطن، فالفائدة الأساسية ستكون في تحسن الخدمات التي يعاني منها منذ سنوات، مثل ضخ استثمارات في قطاع الكهرباء والمياه، مما يقلل من ساعات التقنين، ويحسّن جودة الحياة اليومية. كما أن تقليص النفقات التي يتحملها المواطن في السوق السوداء أو عبر الحلول البديلة سيُخفف من أعبائه. ويشير متولي إلى أن تخصيص جزء من الاستثمارات للتعليم والتدريب المهني سينتج جيلاً جديداً من الشباب المؤهل لسوق العمل، وهو ما من شأنه رفع الإنتاجية وتقليل نسب الفقر، بحسب متولي.
تص