كان السُّنّة في لبنان يؤثّرون في محيطهم ويتأثّرون. وكانت حرارتهم السياسية والوطنية دائمة الشبق ودائمة الغليان. ما عرفت البرودة إليهم طريقاً حتّى في عزّ الصقيع. بل ظلّ الاشتعال يكمن في عميق نفوسهم كجمر تحت الرماد. فما إن تعلو راية أو يرتفع صوت أو تلوّح لهم قضيّة ولو من خلف البحار، حتّى يصيروا كفوهة بركان لا يهدأ ولا يستكين.
تعرّفنا إلى السُّنّة وخبرناهم عند المنعطفات الكبرى. وإن كان لا بدّ من جدار يفصل ما قبل اتّفاق الطائف عمّا بعده، فلتكن بداية المعرفة والاختبار منذ اغتيال رفيق الحريري حتّى هروب بشّار الأسد، وبينهما رحلة مضنية وقاتلة فوق الزجاج المطحون.
حين سمعوا صوت الانفجار الرهيب، أو شاهدوه عبر الشاشات في بيوتهم، تسلّل الذعر سريعاً إلى صدورهم. لم يكن رفيق الحريري قبلذاك إلّا عنواناً برّاقاً من عناوينهم السياسية واليومية. لكنّه استحال في لحظة القتل شخصيّة معنويّة شديدة التكثيف، بحيث لا يختصر مرحلته الزمنية وحسب، بل يمتدّ لتاريخ طويل ومتجذّر ومتشعّب.
لم تحمل مرحلة رفيق الحريري أيّ وجه من وجوه السنّيّة السياسية بمعناها التقليدي أو المجرّد، بقدر ما كانت وصفة عبقريّة فريدة تمّ تخصيصها لواقع دقيق وحسّاس، وقد برع الرجل في حياكة تفاصيلها، وفي تذليل عقبات ومعضلات مزمنة، وفي المشي السريع داخل حقول مدجّجة بالألغام. كان ممنوعاً عليه أن يأخذ في السياسة أكثر ممّا يُعطى، لكنّه أبدع في ما أُعطي إليه على الرغم من قلّته ومحدوديّته، وحين بات أكبر من القدرة على التطويق، تمّ شطبه بطنّين من المتفجّرات.
عادت الحرارة إلى اعتدالها. إلى طبيعتها. السنّة اليوم هم أناسٌ عاديّون. ثأروا لمظلوميّة ضاربة وصارخة
الحلم المستحيل
أوّل نصّ في نصوص السنّيّة السياسية كان قتل رفيق الحريري. ما قبل القتل عرفنا الحريريّة السياسيّة بمضامينها الوطنيّة. وكانت مطوّقة يومذاك من نظام الأسدين في دمشق، ومن نظام الملالي في بيروت، وهما معاً يمتلكان حساسيّة مفرطة بوجه أيّ مشروعيّة سنّيّة، ولو كان صاحبها لا يمتلك من سنّيّته إلّا هويّته الدينية لا سلوكه السياسي. إذ يكفي أن ينجح رفيق الحريري ويكبر كي يثير الذعر، حتّى وإن كان في أحضانهم أو تحت سقوفهم. المشكلة تكمن حصراً في الخلطة الممنوعة بين سنّيّته وتفوّقه. ولو لم يجمعهما معاً لحكَم وتجذّر وعاش.
حاول رفيق الحريري عبثاً أن يتجاوز هذه المعضلة. بالحكمة والصبر والترفّع. ثمّ بالهدوء والحوار والطمأنة. لكنّ ذلك كلّه لم يزِدهم إلّا ذعراً. لأنّ الاستيعاب بحدّ ذاته لا يُجيده ولا يستطيعه إلّا الكبار. ولا مكان للكبار يومذاك إلّا في قبورهم.
قتلوه وقد ظنّوا أنّها عاصفة وتمضي. وقد مضت. لكنّها أعادت السنّة إلى مربّعهم الأوّل. بدا أنّ رفيق الحريري قد أمسك عليهم التاريخ والجغرافيا. وارتضى أن يسحبهم بليونة ورفق نحو لبنانيّة خالصة، ونحو حياة وطنيّة مستجدّة عنوانها العيش لا الموت. التنافس لا التذابح. النجاح لا الغرق المستدام في وحل لا ينضب. هو حلمٌ صغير جدّاً. لكنّه حلم مستحيل في بلاد تتوسّط ثلاثة من “عتاولة” الإجرام والبطش والتوسّع: من الثورة الخمينيّة التي تمّ تخصيصها للتصدير والفتك بعواصم وحواضر العرب. مروراً بالأسد المذعور في قلب بحر سنّيّ هادر. وصولاً إلى العنصريّة الإسرائيلية التي لا تقلّ عنهما فداحة بل تزيد.
السنّة
استفاق المارد السنّيّ في لبنان بعد نوم طويل. تبلورت أوّل الاختبارات الصاخبة مع حصار فؤاد السنيورة في السراي. وقد بدا يومذاك أنّ القرار اتُّخذ، ليس بدفن رفيق الحريري وحسب، بل بدفن السنّة تماماً بالمعنى السياسي.
كان السُّنّة في لبنان يؤثّرون في محيطهم ويتأثّرون. وكانت حرارتهم السياسية والوطنية دائمة الشبق ودائمة الغليان
ثأرٌ على شاكلة زلزال
منذ 14 شباط من عام 2005، حتّى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، مروراً بأحداث السابع من أيّار، واتّفاق الدوحة المشؤوم، وانقلاب بشّار الأسد و”الحزب” على روحيّة السين – سين، ظلّت حرارة السنّة في غليان مستدام، من أقاصي شبعا إلى ضفّة النهر الكبير، ومن آخر جرود عرسال إلى سعدنايل ومجدل عنجر وطرابلس وبيروت وصيدا بوّابة الجنوب. لم تهدأ منطقة ولم تستكِن. وقد فعلت جميعها ما لم تفعله في تاريخها لرجل أو قضيّة أو مشروع، لكنّها أصيبت بخيبات مركّبة ومتناسلة، ثمّ استحالت القيامة المرجوّة قهراً مستداماً.
عاد الدم إلى شريانهم الأبهر مع انفجار الثورة المجيدة بوجه الأسد ونظامه. وقد تفاعلوا معها وكأنّها جزء لا يتجزّأ من الربيع الذي سرقه السفّاح من عيونهم. ظنّوا لبرهة أنّها الابتسامة التي تسبق الضحك، وأنّ الدنيا لا شكّ ستضحك لهم بعد البكاء الطويل.
تفرملت الثورة اليتيمة. استحكم الأسد مجدّداً برقبة دمشق. وقبض الملالي على رقبته ورقبة أعزّ عواصم العرب. دخل السنّة سريعاً في موتهم السريري. لامست حرارتهم درجة التجمّد. قبل أن يصيروا ما يشبه الجالية في بلادهم، وقد تعرّفوا يومذاك إلى حسّان دياب، ذاك الرجل الذي أتوا به من غياهب التكنوقراط ليجلس في كرسي رفيق الحريري، ولا شيء في جعبته أو تاريخه أو سيرته سوى هويّة كُتب عليها أنّه سنّيّ منذ أكثر من عشر سنوات.
أعادت الصور الأولى لـ”طوفان الأقصى” جريان الدم في عروقهم على الرغم من السبات الطويل. استطاعوا جميعهم أن يقسموا المشهد سريعاً بين صورتين
أعادت الصور الأولى لـ”طوفان الأقصى” جريان الدم في عروقهم على الرغم من السبات الطويل. استطاعوا جميعهم أن يقسموا المشهد سريعاً بين صورتين: الأولى في غزّة. التي انتفضت وضربت في المقتل. وبين تاجر متخصّص بحياكة السجّاد وبيعه. أخذت الحرارة بالارتفاع لحظة اغتيال محور المحور. لم يكن الخبر سعيداً. كان يعزّ عليهم أن يتقاسموا الفرحة مع نتنياهو. اختاروا الصمت النبيل. والترفّع عن كلّ ما خبروه وعرفوه على مدى سنواتهم العجاف. وما هي إلّا أيّام حتّى أطلّ الزلزال برأسه من حلب. ثمّ حماة. ثمّ حمص. ثمّ سقطت دمشق وهرب بشّار. كان اليوم الذي انتظروه في أحلامهم. وما ظنّ واحدهم أنّه قد يعيش حتّى يلمسه أو يراه.
السّنّيّة الآتية من دمشق
عادت الحرارة إلى اعتدالها. إلى طبيعتها. السنّة اليوم هم أناسٌ عاديّون. ثأروا لمظلوميّة ضاربة وصارخة. وأخذوا حقّهم المعنوي بعد سنوات من القتل والسحل والقهر والتهميش والشيطنة والعذابات. ثمّ اختاروا أن يسلكوا مسار الدولة التي حاولوا بناء الطريق إليها ولو بأشفار عيونهم. وقفوا بحزم إلى جانب جوزف عون واستبشروا خيراً بخطاب قسمه، وقد شهدت بأمّ العين كيف رقّت قلوب حدّ البكاء وهم يشاهدون الرئيس وهو يرتعد كالعاصفة من على منبر مجلس النوّاب.
ثمّ هلّلوا لنوّاف الآتي من أرفع منبر للحقّ والعدالة. وهم أهل حقّ وطلّاب عدالة. أرادوا لهذه البلاد أن تسلك طريقها إلى النور. وأن يصيروا مواطنين طبيعيّين في دولة طبيعية. يحكمها العدل والدستور والقانون. والجميع فيها سواسية كأسنان المشط. فلا سلاح إلّا سلاح الدولة. ولا منطق إلّا منطق الدولة. ولا خيمة فوق رأس أحد. مهما كبر أو صغر.
لم تحمل مرحلة رفيق الحريري أيّ وجه من وجوه السنّيّة السياسية بمعناها التقليدي أو المجرّد، بقدر ما كانت وصفة عبقريّة فريدة
هم ينظرون الآن إلى المشهد المتعثّر. جوزف عون صار غير ذاك الذي عرفوه. نوّاف سلام نعتوه بالصهيوني بعدما استدركوا حجمه وعرفوا ديته. “الحزب” يصفع جنديّاً يلبس خوذة الأمم المتّحدة. ثمّ يراوغ ويناور ويتذاكى على الدولة وعلى العرب وعلى العالم. وكأنّه غير معنيّ لا بمستقبل البلد ولا بمصير أهله وناسه. وكلّ ما يتوثّب إليه لا يعدو كونه محاولة مجنونة لإعادة إنتاج ما تمّ سحقه، وهي محاولة لن يستطيعها أحد على وجه البسيطة.
إقرأ أيضاً: نوّاف سلام ليس ضلعاً قاصراً
على مقربة من هذا العبث، ثمّة رئيس جديد في سوريا، وثمّة سوريا جديدة في طور الولادة. كلّ شيء هناك يشبه السّنّة الذين ضاقوا ذرعاً بالجغرافيا والخرائط. وباتوا يشعرون أنّ بلادهم غير قابلة للسويّة. عين لهم هنا وعين هناك. والسباق بات محموماً بين إعادة الأمور إلى نصابها والذهاب بلبنان سريعاً إلى حيث يجب أن يكون، وبين انتقالتهم المؤكّدة إلى دمشق. هناك حيث تنمو السنّيّة السياسية الوليدة، وهي ستتعاظم وتكبر، وستصير أقرب إليهم من شراكات مضنية في بلد مستحيل خصوصاً بعد صورة الشرع برعاية ولي العهد السعودي يحاور الرئيس الأميركي دونالد ترامب. عاجلاً أم آجلاً سيذهبون بحثاً عنها أو ستصل كالطوفان إلى ربوعهم. وحينها، ستعود حرارتهم إلى الغليان. سيشمّرون عن سواعدهم وعن أنيابهم. وسيحكمون هذه البلاد على المذهب الذي يختاره أحمد الشرع. هذه دروس ثابتة في التاريخ وفي الجغرافيا.