ما بعد الضربة الاسرائيلية على إيران غير ما كان عليه قبلها قطعاً. فقد أذهل ما فعلته إسرائيل في غضون 24 ساعة كلاً من المراقبين العسكريين والعالم بسبب سرعتها وفعاليتها التدميرية ومعلوماتها الاستخباراتية المتفوّقة. وفي المقابل، بدت إيران شبه عاجزة عن الدفاع عن نفسها، بل مستسلمة إلى حدٍّ كبير للهجوم الاسرائيلي، حتى أنّ نظامها عجزَ عن الدفاع عن المجال الجويّ للبلد بعد أعوام من التباهي بالقدرات الدفاعية الجوية التي يملكها. أمَّا المسيّرات التي أرسلتها إيران إلى إسرائيل فقد ثبت أنها غير فعّالة، وربما أُسقطت قبل أن تصل إلى تل أبيب.
لا شكّ في أن ما فعلته إسرائيل كان مذلًّاً جداً لهذا النظام الذي “نفخ” نفسه طوال أعوامٍ وأوحى بأنه “نمر”، قادر على تدمير إسرائيل في 7 ساعات. لكنّ الهجوم الاسرائيلي كشف عكس ذلك!
واللافت أن الأذرع العسكرية المنهَكة أصلاً لم تبادر إلى أيّ ردّ فعليّ، مؤكّدة عجزها الكامل عن أداء أيّ دور في هذه المرحلة دفاعاً عن مرجعيتها الايرانية التي سلّحتها وموّلتها ودرّبتها على مدار سنوات عدَّة، علماً أن إيران استنفدت تلك الأذرع بسبب معركة “طوفان الأقصى”، التي انطلقت في 7 تشرين الأول 2023، وتلقَّت بسببها ضربات موجعة من إسرائيل والولايات المتحدة، لتجد نفسها وحيدة في مواجهة تل أبيب التي انتظرت هذه الفرصة منذ أعوام طويلة وخطّطت لها جيداً قبل أن تبدأ عملياتها التي تستمرّ حتى هذه الساعة.
ويعتبر عميد متقاعد في الجيش اللبناني أن إيران تملك جيشاً كلاسيكِيّاً تقليدِيّاً، لكنّ قواتها الجوية والبحرية تعاني نقصاً في الموارد بسبب العقوبات. لذلك تفتقر ايران إلى طائراتٍ حربيةٍ وسفنٍ حديثة، بحيث تستعيض بالصواريخ والطائرات المسيّرة، ويبدو أن إسرائيل تمكّنت بالفعل من تدمير عددٍ كبيرٍ منها على مراحل، حتى لو أطلقت إيران المئات منها على إسرائيل.
في المقابل، تبدو الحرب الاسرائيلية على إيران وجودية، بعد أن توصّلت الاستخبارات الاسرائيلية إلى معلومات تفيد بأن عملية التخصيب الايرانية باتت متقدّمة جداً وقادرة على صناعة تسعِ قنابل. لم تكن إسرائيل على استعدادٍ أبداً لأن تنتظر أكثر، فاغتنمت هذه الفرصة في ظلّ تعنت الايرانيين في المفاوضات، مع إحاطة الادارة الأميركية علماً بذلك. وقد لعبت إسرائيل بذكاءٍ على إيهام إيران أن أيّ هجومٍ لن يتمّ إلاّ بعد الجولة السادسة من المفاوضات يوم الأحد المقبل، وهو ما أتاح لها عنصر المفاجأة لتكون ضربتُها أكثر فعالية.
قد لا تكون هذه الضربات قضت على قدرات إيران النووية كاملة، إلا أنها أضعفت تلك القدرات بصورة ملحوظ.ة. ومن المؤكَّد أنها ستخرج أضعفَ بكثيرٍ ممَّا كانت عليه، بل إن محورها بأكمله تعطَّلَ، وأصبح مشلولاً بعد عامين من المواجهات، سواء كان مع “حزب الله”، “حماس” أو الحوثِيّين.
تجدر الاشارة إلى أن هذه العملية العسكرية تمَّت من دون تدخُّل مباشرٍ من الولايات المتحدة الأميركية. لكنَّ تخطيط ما جرى في لبنان وسوريا وغزَّة واليمن والعراق وإيران كان يتم على مدار فترة طويلة ضمن سياق ما يُسمّى “الشرق الأوسط الجديد”. ويؤكد العميد المتقاعد أن الهدف الأساسي في هذه الخطة كان القضاء على نظام إيران وأذرعه العسكرية ومحوره عموماً. ومن يراقب تسلسل الأحداث منذ 7 تشرين الأول 2023، يلاحظ هذا بوضوح، بحيث كان الردّ الاسرائيلي على عملية “طوفان الأقصى”، التي نفّذتْها حركة “حماس”، قوياً جداً. فقد قضت إسرائيل على التنظيم الفلسطيني المسلَّح التابع لإيران وقتلت قائده يحيى السنوار وآخرين. بالاضافة إلى ذلك، شنَّت حرباً على “حزب الله”، نجحت خلالها في إلحاق خسارة كبيرة به، بعد أن قضت على حسن نصر الله وبعض قياديِي وحدة “الرضوان” وأضعفت ترسانته العسكرية إلى النصف، بالاضافة إلى تحرير لبنان نسبياً بسبب استعادة الدولة مكانتها. وفي ما يتعلق بالحوثِيّين، فقد تكفَّلَت الولايات المتحدة بأمرهم عبر حملة عسكرية صاعقة استمرَّت شهرين، ما أدى إلى استسلامهم.
ولم يكتمل هذا المشهد إلاّ عبر لعبة استخباراتية أميركية-تركية، أنهت دور نظام بشار الأسد – الحليف الأساسي لإيران – الذي كان يشكّل ممراً لتزويد “حزب الله” بالسلاح والمال، ما أضعف قدرته على مواصلة القتال. كان هذا بمنزلة ضربةٍ حاسمةٍ لمحور الممانعة. لم يتبقَّ في النهاية إلا إيران – “رأس الأفعى”، التي بسطت نفوذها على عواصم عربية على مدار 25 عاماً، وقوَّت أذرعها على حساب مفهوم الدولة في تلك العواصم، محوّلة إياها إلى ورقةِ ابتزاز في مفاوضاتها مع الغرب.
ويشير العميد المتقاعد إلى أننا نعيش اليوم مرحلة مصيرية وحاسمة لهذا المحور الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة رسمياً، بعدما عاث في الدول العربية إرهاباً وفساداً وتعصباً مذهبياً. ويبدو أن يوم الحساب قد اقترب، بعدما أنفقت إيران عشرات المليارات من الدولارات وآلاف الأرواح على محورٍ انهار كبيتٍ من ورق.
ما حصل في اليومين الفائتين جعل خطابات المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، مجرد تفاهاتٍ لا معنى ولا مصداقية لها. والادعاء أن محوره لا يزال حيّاً يرزق أصبح نكتة سمجة، بعدما قضت عليه إسرائيل، وقام الاسلاميون السُنَّة المدعومون من تركيا في سوريا بإقصاء الأسد وطرد إيران من هناك.
في الواقع، قد يخرج النظام الإيراني ضعيفاً، أو قد يطاح به نهائِيّاً بعد هذه الحرب الاسرائيلية العنيفة. فقد تسعى الولايات المتحدة إلى إيقاظ الشعب البائس الذي عانى الأمرَّين بسبب هذا النظام الفاسد. وصدق من قال إنَّ زمن تصدير الثورة الايرانية قد انتهى، علماً أن ما زعمه رؤساء هذا النظام مرة أنَّهم يقدّمون نموذجاً إسلامِيّاً قابلاً للتصدير، قادراً على منافسة الرأسمالية والشيوعية، تبيَّن لاحقاً أنَّه كان حكماً أوليغارشيّاً فاسداً وقمعِيّاً.
لقد أفقرَ حكم خامنئي إيران على مدار 35 عاماً وعزلها، وجعلها أكثر قمعاً على المستوى السياسي. وبالتالي يحقّ للشعب الايراني وشعوب المنطقة التي عانت بسبب الأذرع العسكرية أن تعيش في استقرارٍ وازدهار ضمن شراكات مع المجتمع الدولي.
بعد انهيار هذا المحور، قد لا تصبح المنطقة على الفور أكثر استقراراً وتماسكاً وتتّجه نحو التنمية الاقتصادية بدلاً من الحرب، إلاّ أنها بلا شكّ ستكون في حالٍ أفضل مع نهاية المشروع الثوری الايراني.