مرةً جديدة، يفرض بنيامين نتنياهو إيقاعه على الشرق الأوسط، لكن هذه المرة ليس من بوابة غزة، بل من قلب طهران. فجر الجمعة، أطلقت إسرائيل العنان لعملية “الأسد الصاعد”، حيث انطلقت الطائرات، وتحركت المُسيّرات، وهطلت الضربات على أهداف عسكرية واستراتيجية في العاصمة الايرانية، في واحدة من أجرأ العمليات التي تنفذها تل أبيب منذ تأسيس الجمهورية الاسلامية عام 1979.
لكن ما بدا كضربة عسكرية تقليدية كان في حقيقته تتويجاً لعقود من العمل الاستخباراتي الصامت. فإسرائيل، كما اعترفت علناً، لم تكتفِ بالقصف من الخارج، بل فجّرت من الداخل: زرع العملاء، تعطيل الرادارات، توجيه المُسيّرات من قواعد قريبة من طهران، واغتيال قادة في الحرس الثوري والعلماء النوويين. كل ذلك لم يكن وليد اللحظة، بل ثمرة تخطيط طويل نفذه “فرع الموساد في طهران”.
ما يلفت في هذه الضربة هو أنها تُعيد تفعيل استراتيجية أثبتت نجاعتها في تجارب سابقة، أبرزها ما عُرف في لبنان بـ”تفجيرات البايجر”، حين استخدم الموساد عبوات مزروعة داخل أجهزة اتصال كان يحملها عناصر من “حزب الله”، لتنفجر عن بُعد وتقتل من دون ضجيج أو اشتباك. الرسالة كانت واضحة: نعرفكم، نراكم، ونخترقكم من الداخل.
اليوم، تتكرر الفكرة نفسها في إيران، لكن على نطاق دولة لا تنظيم. لم تُفجّر إسرائيل جهاز اتصال، بل قواعد صواريخ، ومقرات عسكرية، ومنشآت نووية. المنهج نفسه… بحجم جمهورية.
لكن الصدمة الايرانية لم تدم طويلاً. بعد ساعات من الترقب، جاء الإياب الايراني مدوياً: أكثر من 100 صاروخ باليستي وفرط صوتي، أُطلقت دفعة واحدة نحو 9 مواقع في إسرائيل، بينها تل أبيب والقدس ومحيط ديمونا. سقط بعضها، واعترضت القبة الحديدية البعض الآخر، لكن الرسالة وصلت: من يضرب طهران، يجب أن يتوقّع الرد.
كانت لحظة استثنائية: صفارات الإنذار في كل إسرائيل، أعمدة دخان فوق ناطحات تل أبيب، وأوامر عسكرية بإخلاء الشوارع والتوجه إلى الملاجئ. حتى الجيش نفسه أعلن: “إسرائيل بأكملها تحت النار”.
لكن خلف هذا الإياب العنيف، يختبئ بُعد سياسي لا يقل أهمية. فإيران، وهي تخوض مفاوضات نووية شائكة مع واشنطن، كانت تدرك أن السكوت على ضربة بهذه الضخامة سيُفقدها كل أوراق القوة على طاولة التفاوض. فكان الصاروخ هنا جزءاً من أوراق التفاوض، لا فقط من أوراق المعركة.
المشهد اليوم أكبر من حرب تقليدية. إنه اشتباك استخباراتي-عسكري، تتحكم فيه الدقة والاختراق بقدر ما تتحكم فيه القنابل. إسرائيل أرادت أن تُسقط هيبة إيران من الداخل، ولهذا، كانت ضربة “الأسد الصاعد” أقرب إلى جراحة استراتيجية: تستأصل، من دون الحاجة إلى مواجهة على الأرض.
ما بين تفجير “بايجر” في الضاحية، وتدمير منصة نووية في طهران، وإطلاق صاروخ فرط صوتي فوق تل أبيب، تبدو حروب الشرق الأوسط قد دخلت طوراً جديداً. لم تعد الحروب تُخاض على الجبهات، بل داخل العقول، والأنظمة، والأجهزة، وحتى داخل الجسد نفسه.
إسرائيل فتحت فصلاً جديداً من الحرب غير التقليدية، وإيران ردّت بلغة الصواريخ، لا البيانات. وبين الاثنين، يقف العالم على حافة هاوية: مفاوضات نووية تترنح، ومشهد إقليمي يشتعل… وشرق أوسط لا يشبه ما قبله.
الطوفان بدأ من السماء… أما ما بعده، فلا سقف له.
لبنان: إدانة رسمية.. ومناشدة لعدم التورط
في موازاة التصعيد الاقليمي، أجمعت المواقف الرسمية اللبنانية على إدانة الضربات الاسرائيلية ضد إيران، مع تشديد واضح على ضرورة تحييد لبنان عن أي تداعيات محتملة. وقد برز موقف “حزب الله” الذي اكتفى ببيان إدانة خالٍ من التهديد أو الوعيد، في وقت نقلت فيه وكالة “رويترز” عن مصدر في الحزب قوله إن الجماعة لن تبادر إلى مهاجمة إسرائيل.
رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة كثفتا اتصالاتهما داخلياً وخارجياً، وأبلغت الحكومة الحزب عبر قيادة الجيش قراراً حازماً بعدم توريط لبنان في التصعيد. وفي هذا السياق، قطع الرئيس جوزاف عون زيارته إلى الفاتيكان وعاد إلى بيروت لمتابعة التطورات، بينما دان رئيس الحكومة نواف سلام العدوان الاسرائيلي بشدة، معتبراً أنه تهديد خطير لاستقرار المنطقة والسلم العالمي.
ودعا رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى تحرك دولي عاجل للجم العدوانية الاسرائيلية، واصفاً إسرائيل بأنها تهديد عابر للحدود يشكل خطراً على السلام العالمي. في حين شددت وزارة الخارجية في بيانها على أن الاعتداء يشكل خرقاً فاضحاً للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، محذّرة من عواقب التصعيد على الأمن الاقليمي والدولي.
أما “حزب الله، فاعتبر في بيانه أن إسرائيل تخطت الخطوط الحمر، محذراً من مغامرات قد تشعل المنطقة، لكنه لم يلوّح بأي ردّ مباشر، مؤكداً دعمه لإيران في الدفاع عن نفسها. وفي موقف موازٍ، رأى الأمين العام للحزب نعيم قاسم أن العدوان يهدف إلى إسكات صوت الحق الداعم لفلسطين، مؤكداً أن ما جرى لن يمر من دون ردّ وعقاب، وأن الحزب يقف إلى جانب إيران في كل ما تتخذه من إجراءات.