—–
كان واقفا في منتصف الشارع الوحيد للمخيم – المخيم الذي بني بعد الحرب – ….كان يراقب المشهد … عيناه مسمرتان عليه ، يراقبه بشوق وأمنيه .. يحرك لسانه على شفتيه .. يا الله ما اجمله!! يا لها من لوحة جميلة .. يا لها من رائحة ذكيه !!
هذا حوض الفلافل ، وتلك الأقراص تتراقص في الزيت الذي يغلي … منظرها وهي تقلى تبعث السرور، والرجل الذي يرمي أقراص الفلافل في الزيت الساخن بنشاط وسرعة يضفي على المشهد حيوية ومنظرا مبهجا.
ثمة منظر آخر يشدالناظر اليه ، ذاك الرجل الذي يفتح أرغفة الخبز على الطاوله يضع فوق كل رغيف بضعة أقراص من الفلافل الساخنة وفوقها قطع البندورة وأوراق الخس ويضيف اليها الملح والمخلل الوردي وبعضا من عصير الحامض ثم يلف ارغفة الخبز على مكوناتها فتصبح وجبة الفلافل جاهزة للأكل بعد دفع الثمن ، لكن – جمال أبو زيتونه – طالب الصف -الرابع لم يكن قد اشترى لفافة في طفولته … هذه طفولة قاهرة وبائسه ، في مخيم موحل وبارد وتعيس . مرعب فيه صوت الأب الجبار الذي يشبه قنبلة أو صاعقة تدوي إذ تجرأ جمال وطلب فرنكات قليلة …. كان صوت الاب داويا قطع كل رغبة في طلب اي شيء منذ سنوات ،
والآن هو أسير اللحظة … أسير المنظر البهي الجميل .
تنبه -جمال أبو زيتونه -فجأة الى صوت الجرس الملاصقة لمحل الفلافل وفجأة وجد نفسه أمام البائع :
عمو الله يخليك .. اعطيني قرص فلافل … ما معي مصاري.
بكل يسر ناوله البائع قرصا قائلا له :
تكرم عمو … اتفضل .
بفرح لا يوصف اخذ جمال قرص الفلفل وركض باتجاه المدرسة قابضا بيده الصغيرة على القرص الدافي ودخل الحصة الدراسية قبل حضور المعلم ، ثم قضم جزءا من القرص متلمظا مسرورا وبعد دقائق قضم جزءا آخر وفي كل قضمة يحس بنشوة غريبه … نشوة لن ينساها لزمن طويل … طويل جدا
……
كانون الأول ١٩٦٧
*****
المخيم رقم ٢
*****
الهواء شرقي بارد ، وليس ثمة مكان دافيء في ساحة المخيم إلا تلك الزاوية الجنوبية الغربية حيث بناء المدرسة يعكس شمس كانون الخجولة فيعطي المكان دفئا قليلا ،ويعطي الجسد النحيل بعضا من اشعة تدفيء عظامه .
هنا يقف بعض الطلبة ..وهنا يقف – ماجد أبو زيتونه- ابن جمال -الذي فقد اثناء حرب حزيران بعد أن خلف وراءه اسرة من اربعة بنات صغيرات مع ماجد وأمهم ..هنا في هذا المخيم الجديد فتحت مدرسة على عجل في بناء لم يكتمل أنشاؤه ، بناء دون نوافذ ودون دفء يقي البرد والريح …
هنا يدرس -ماجد – وهذا مكان الوقوف الأفضل اثناء الاستراحة بين الحصص الدرسيه ، ومن هنا يراقب هرج الطلاب و حركاتهم وأصواتهم العاليه تتداخل حيث ينادي بعضهم :
-انا دوري يا ابا أحمد ..
– الله يخليك اعطيني لفة يا ابا أحمد…
– يا ابا احمد .. عجل .خلصت الفرصه ..
وأبو احمد – بائع ساندويش الفلافل يقبع فوق حائط المدرسة يحمل سلة مليئة بساندويش الفلافل الجاهزة . وبصوته الخشن يقول :
اعطوني فراطة * … اعطوني فراطة .
منذ أن دخل ماجد هذه المدرسة وهو يراقب بائع الفلافل، يشم رائحة الاقرص الطيبة ويتحسس جيبه الفارغ :
ماذا لو كان معي ثمن لفة فلافل ؟؟؟
لقد اعتاد على الخيبات …. منذ أشهر عديدة … منذ الحرب ، منذ فقد والده في الحرب ، لم ينعم بمذاق قرص فلافل واحد ..اعتاد على الفشل في إقناع امه بأخذ ثمن ساندويشة فلافل ، دائما يكون الرد :
ما معنا مصاري ، وتضيف :
شو هالقهر يا ربي ؟؟
لم يكن مرة مقتنعا بما يقال له ، لكن لاجدوى بتاتا من تكرار الطلب . .. لقد يئس تماما .
لكن هذا اليوم كان مختلفا … تساءل وقد أحس بالجوع يعصر معدته :
ماذا لوأهدى لي أحدهم لفافة واحدة ؟؟
ماذا لو أعطاني أبا احمد واحدة مجانا ؟؟؟
ماذا لو سرقت واحدة … ؟؟؟
ماذا لو سرقت من أمي ….؟؟؟؟
كان نظره مستقرا على سلة البائع … لقد أصبحت فارغة تماما … لم يعد ثمة أمل في قرص فلافل هذه الايام ايضا
******
المخيم رقم -٣-
كانون الأول – ٢٠٢٣ –
*****
أنا الرجل العجوز – جمال أبو زيتونه – الحفيد الثالث لجدي الذي سكن أول مخيم عام ١٩٤٨ –
، اعترف بعجزي عن إنقاذ أحفادي من بين الركام ، اعترف بهزيمتي أمام هذا الدمار ، أمام الهول الذي نعيشه … أمام هذه الحرب .. جهنم التي على الارض .
لا أدري من أنقذني من تحت الركام ولا أعرف من أنقذ حفيدي الباقي الوحيد من العائلة – ماجد أبو زيتونه – لقد رأيت نفسي معه في هذا ( المخيم ) ليس مخيما ، بل بقايا أكياس نصبت خيام خالية من الأكل والشرب والدفء ، … في كانون الأول يلتحف حفيدي بي ، وانا من يحتاج الى لحاف … إيه يابني … يعز علينا غياب ابويك واخوتك … يؤلمني أنا البقاء بعدهم .. بعد هذا الخراب .
بعد أيام والكابوس مازال يثقلنا ، لا أدري من أين اتى الطفل ماجد بورقة وقلم ، نظرت الى ما يرسم فقلت :
جميل ، هذا علم أبيض وداخله شمس !!
قال لي :
لا يا جدي … هذا بيت وقرص فلافل … قرص فلافل طري وساخن .
*****