التعبير الحر بين الشجاعة والخوف
في عالم أعيش فيه بين لغتين وثقافتين، أجدني أحتار كيف أقول ما في داخلي. بالعربية، لغة جذوري، يخيم عليّ خوف دائم من الهجوم والتنمر، ومن أن يصنّفني الآخر بسرعة وببساطة في خانة معينة بحسب أفكاري، فتُختزل إنسانيتي وتُحكم عليّ قبل أن يُسمع صوتي الحقيقي. أما بالفرنسية، فالأفق أوسع، والحرية أكبر، لكنني أنتمي إلى مشاكل العالم العربي، حيث هذا العالم يشكل أرضية كتاباتي: هواجسي الفنية والمعرفية، وأشعر بالمسؤولية صوب هذه المنطقة التي أعرفها بدقة، وأعرف كيف يعيش أهلها، ولا يمكنني الانفصال عنها.
أحاول إقناع نفسي أحيانًا بالتركيز في عالمي الروائي، والعيش ككاتبة روائية، أستمتع بالغوص في عوالمي الإبداعية، ولا أوجع رأسي بإعطاء رأيي في المواقف الحساسة: السياسة أو مواضيع انتهاكات النساء، فأنا في النهاية لستُ كاتبة سياسية، ولا ناشطة، ولا مدافعة عن حقوق الإنسان…
وقبل أن أنهي هذا الحديث الجبان مع ذاتي، أشعر بالخجل، وأتذكر الكتّاب الذين كبرتُ على أفكارهم، الذين دافعوا عن القضايا العامة، حتى وهم غير مصنفين كناشطين سياسيين أو نسويين أو مدافعين عن حقوق الإنسان، كما فعل جان بول سارتر، حين قاد حملة مع مثقفين مثل جان كوكتو وأندريه جيد للإفراج عن الكاتب جان جينيه المسجون بتهمة السرقة، من خلال عريضة موجهة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية، أو إميل زولا، حين نشر رسالة “إني أتهم” في صحيفة “لورور”، منددًا بمحاكمة ألفريد دريفوس غير العادلة ومعاداة السامية في المؤسسة العسكرية الفرنسية، أو نوعم تشومسكي الذي وقّع بيانات تدين العدوان الإسرائيلي على غزة، ودعم حركة “حياة السود مهمة”، ومارغريت أتوود حين وقّعت بيانات للدفاع عن الصحافيين المعتقلين في تركيا، وحالات كثيرة لا يمكن حصرها لكتّاب عرب معاصرين أُجبروا على ترك بلادهم خوفًا على حياتهم، بسبب آرائهم السياسية… كل هذا يُعيد لي رأسي القلق، المنغمس في الشأن العام، عاجزة عن الفصل بين الهم العام والآخر الإبداعي، بدون إنكار تخوفي من أن تؤدي آرائي السياسية إلى خسارتي لجمهوري أو قرّائي.
خوفي هذا ليس فقط شخصيًا، بل يمكن القول إنه مرآة لما يعانيه كثيرون من الكتّاب في العالم العربي، حيث التعبير السياسي لا يزال محفوفًا بالمخاطر، ليس فقط على المستوى القانوني، بل أيضًا من الناحية الاجتماعية والنفسية.
ولأننا جميعًا كائنات سياسية في النهاية، تتأثر حياتنا بأي حدث سلبي أو إيجابي: الحرب في منطقتنا، أو اتفاقيات السلام أو الهدنة، فإننا منجذبون رغمًا عنا، صوب الحدث السياسي، لأن السياسة ليست مجرد مناظرات أو أخبار، بل هي النسيج الذي يشكل واقعنا، خياراتنا، وحتى هوياتنا. في كل كلمة أكتبها، وفي كل فكرة أنقلها، هناك حضور للسياسة، سواء أردت أم لم أرد. أحيانًا أشعر أن الابتعاد عن السياسة هو نوع من الإنكار، أو هروب من الحقيقة التي تحيط بنا. لذلك، رغم خوفي وقلقي، أجد أن التعبير السياسي جزء لا يتجزأ من كتابتي ومن هويتي.
الخوف كحاجز أمام الإبداع
من المعروف والبديهي أنه من أول شروط الإبداع: حرية التعبير، والخوف يتعارض منطقيًا مع الحرية، وبالعودة أننا كائنات سياسية، خاصة في العالم العربي، تربينا على الخوف من إعلان آرائنا السياسية بسبب الاعتقال أو المطاردة من السلطات بسبب آرائنا، فإن هذا الخوف لم يُمح بانتقالنا إلى بيئات قانونية آمنة، لأن البيئة التي ننتمي إليها، ونكتب بلغتها، تستطيع ممارسة سلطاتها صوبنا، أينما ذهبنا.
“في كل كلمة أكتبها، وفي كل فكرة أنقلها، هناك حضور للسياسة، سواء أردت أم لم أرد. الابتعاد عن السياسة هو نوع من الإنكار، أو هروب من الحقيقة التي تحيط بنا”
في إحدى ندواتي مع الجمهور الفرنسي، تحدثت عن الحرية المشروطة، رغم أنني أعيش في بلد يؤمن لي الحرية، لكنني أكتب بالعربية، وأي موقف لا يناسب أحد القراء، أو يستطيع اقتطاعه من سياقه، سوف لا يؤثر عليّ مباشرة فقط، بل يمكن أن يعرّض المقربين مني للأذى.
وقد حدثني صديق روائي عربي عن خوفه من أن يقول رأيًا سياسيًا مخالفًا لجمهوره وقرائه، فيتوقفون عن متابعته، لهذا فإن أشكال العقاب المتأتية عن الجمهور ليس من السهل مواجهتها، فهذا الجمهور يستطيع تسويد صفحة أحدنا في كل مكان، والتشهير بالكاتب، إلى درجة مقاطعته وعزله.
وهذا لا يقتصر على منطقة معينة، بل هو واقع يعيشه فنانون حول العالم. من نجم الروك الأميركي جو كوكر، الذي تعرض لمقاطعة بسبب مواقفه السياسية، إلى المخرج الإيراني جعفر بناهي الذي حُرم من الإخراج والسفر بسبب آرائه المناهضة للنظام.
هذه الأمثلة تذكرني أن الحرية التي أطمح إليها في التعبير ليست مجرد حلم شخصي، بل جزء من معركة أكبر من أجل الحق في أن نكون أنفسنا وأن نحكي قصصنا بحرية وكرامة.
العقوبات التي يواجهها الكاتب
يتعرض الكتّاب إلى عقوبات تبدأ من التنمر والهجوم وربما لا تنتهي بمحاولات اغتيال الكاتب، حتى لو لم يقع الاغتيال ماديًا، فهناك اغتيال معنوي للكاتب، عبر مقاطعته وإجباره على الانسحاب من المشهد الفني، والتواجد في الأمكنة والفضاءات العامة، كما حصل مع سلمان رشدي الذي اضطر إلى العيش متخفيًا لسنوات، وحين استأنف حياته العامة، تعرض لمحاولة اغتيال بالطعن بالسكين عام 2022.
كما أن مواقف الجمهور تزيد حجم المعاقبة، سواء كان القراء أو المشاهدين، يمكن أن يكون له تأثير كبير على الكتاب والفنانين عندما يقررون مقاطعتهم بسبب مواقفهم السياسية أو الاجتماعية. هذه المقاطعة قد تؤدي إلى خسارة الجمهور، تراجع المبيعات، أو حتى تشويه السمعة، مما يضع ضغطًا نفسيًا ومهنيًا على المبدع، وهناك الكثير من الأمثلة التي يمكن اختيار البعض منها:
أليف شافاك (تركيا): واجهت انتقادات حادة ودعوات لمقاطعة أعمالها في تركيا وبعض المجتمعات المحافظة بسبب دعمها لحقوق المثليين وقضايا المرأة. رواياتها، مثل “قواعد العشق الأربعون”، التي تتناول موضوعات حساسة كالهوية والدين، أثارت غضب شرائح من الجمهور، مما دفع البعض إلى الامتناع عن شراء كتبها أو مهاجمتها على وسائل التواصل الاجتماعي.
ج. ك. رولينغ (بريطانيا)، مؤلفة سلسلة “هاري بوتر”: تعرضت إلى مقاطعة واسعة من جمهور القراء والمعجبين بعد تصريحاتها حول قضايا الجندر والمتحولين جنسيًا في 2020. اعتبر البعض آراءها معادية للمتحولين، مما أدى إلى حملات على وسائل التواصل الاجتماعي لحث الناس على عدم شراء كتبها أو مشاهدة الأفلام المستندة إلى أعمالها. هذه المقاطعة أثرت على صورتها العامة، رغم استمرار نجاحها التجاري.
نجيب محفوظ (مصر)، الروائي الحائز على جائزة نوبل: واجه مقاطعة من بعض الجماعات الدينية في مصر والعالم العربي بعد نشر روايته “أولاد حارتنا”، التي اعتُبرت مسيئة إلى بعض المعتقدات الدينية. دعا البعض إلى مقاطعة أعماله، وتعرض لمحاولة اغتيال في 1994 بسبب مواقفه الفكرية.
كانييه ويست (الولايات المتحدة)، الفنان والموسيقي: واجه مقاطعة من جمهوره وشركات تجارية بعد تصريحاته المثيرة للجدل، بما في ذلك تعليقات اعتُبرت معادية للسامية في 2022. أدت هذه التصريحات إلى إلغاء عقود تجارية مع شركات مثل “أديداس” ودعوات من الجمهور للتوقف عن شراء ألبوماته أو حضور حفلاته.
أورهان باموق (تركيا)، الكاتب الحائز على نوبل: تعرض إلى هجوم ودعوات للمقاطعة في تركيا بسبب تصريحاته حول المجازر التاريخية ضد الأرمن والأكراد. اتهمه البعض بالخيانة، وطالب جمهور محافظ بمقاطعة كتبه، مما أثر على شعبيته محليًا رغم نجاحه العالمي.
ومع تزايد حريات النشر واتساع منصاته، تتزايد حجم المسؤوليات والمخاوف، وتبقى الشجاعة معيارًا كبيرًا ورئيسيًا للكتّاب في العالم، والكتّاب العرب خاصة، الذين يواجهون جحيم الجمهور إن غضب وقاطع، وجحيم الأنظمة إن منعت من النشر أو اعتقلت الكاتب أو أخافته، فترك البلاد مُسددًا ثمن حق البشرية البديهي: أن يقول أحدنا ما يفكر فيه بدون أن يؤذي الآخرين…
شارك هذا المقال