يقف مسعف شابّ، يحدّق ببقعة من الدماء على الأرض، في أحد أحياء طهران، يقف متعباً صامتاً بعد ساعات من عمليّات البحث والإنقاذ، ومشاهد الجثث المتفحّمة والأشلاء، يقول لي: “لم أكن أتوقّع أن يشهد جيلنا الحرب… لكنّها ها هي في ديارنا الآن، وها نحن نراها بأمّ أعيننا”
كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة فجراً بقليل، عندما خرق انفجار مروّع ليل طهران الساكن. تردّد دويّ هائل في شوارع باتريس وآبشوري في غرب طهران، وفي لحظة واحدة اهتزّت الأبنية العالية والمنازل وتحطّمت النوافذ، وتدفّق الناس إلى الشوارع مذعورين لا يلوون على شيء، كانت ألسنة النار التي اشتعلت في كلّ مكان تضيء عتمة طهران، والدخان الكثيف يملأ الهواء.
ظللنا في حالة صدمة تامّة، لا نعرف ماذا يجري في مدينتنا، إلى أن بدأت تطلّ شمس الصباح. رأينا عمّال الإنقاذ منغمسين في عملهم، يسابقون الوقت لإنقاذ من يمكن إنقاذه، وإطفاء الحرائق وإخلاء السكّان، وكانوا يغلقون الشوارع التي تعرّضت للقصف بالشرائط الصفراء.
سمعت إحدى نساء الحيّ تقول بجزع: “لم نكن نظنّ أن الحرب ستكون قريبة إلى هذا الحدّ… حقيقية إلى هذا الحدّ”، حولها يتجمّع الناس في مجموعات صغيرة، يحدّقون بحسرة بالركام والحجارة التي كانت منازلهم قبل ساعات فقط.
من بين ما سمعته، رجل يسكن في شارع شادمهر يقول إن الانفجار كان قريباً وقوياً لدرجة أنه ظنّ في البداية أن يوم القيامة قد حدث، لكنّه سرعان ما أدرك أن “شيئاً خطيراً يحدث”، بينما يتحدّث رجل عجوز جلس عند زاوية الشارع: “سمعت أن هناك مسؤولاً حكومياً مهمّاً يسكن في هذا المبنى، لكنّني لا أصدق… الفقراء فقط يسكنون هنا”.
ظللت أتنقلّ من زاوية إلى أخرى، ومع كلّ وجه ألتقيه كانت جعبتي تمتلئ قصصاً إضافية عن الخوف والحيرة والصدمة!
من بعيد رأيت امرأة، وجهها مغطّى بالضمّادات، اقتربت منها، وهنّأتها بالسلامة، أخبرتني أنها خرجت بسرعة من المستشفى لأن إصابتها طفيفة، وقالت بهدوء وحزن شديدين: “نحن أناس عاديون لا نملك أسلحة، ولم يعد لدينا مأوى، نحن لا نملك إلا الدعاء”.
يروي أحد سكّان الحيّ، وهو يشير إلى منزل أطبق على بعضه، أن جيرانه الذين يسكنون فيه قد نجوا بأعجوبة، فقد سافروا قبل يوم من الغارات، ويردّد “الحمد لله، الحمد لله، لو أنهم هنا لقُتلوا جميعاً”، ويتابع “أنظري إلى البيت أصبح كومة حجارة مفتّتة”، يقترب منا شابّ تبدو على عينيه آثار البكاء، يقول وهو يشير إلى مبنى آخر: “انتشلوا خمس جثث من تحت أنقاض ذاك المبنى حتى الآن، وربما لا تزال هناك جثّة أخرى، الناس ماتوا وهم نيّام”.
في شوارع الحيّ، تهبّ رائحة الحريق من كلّ الجهات؛ رائحة اللحم البشري، رائحة البارود، رائحة الغبار الأسود، رائحة البلاستيك، وتنتشر الفوضى في كلّ مكان: الزجاج المكسور، بقايا الطعام، الأثاث المنزلي، ملاعق مبعثرة، طاولات، ستائر ملونة، بطانية محترقة، كتب وشنط مدرسية، وذكريات كلّها ممزوجة بالتراب، كأنها تعود إلى التراب مثل كلّ الكائنات.
رجل إطفاء ما زال في موقع الحادث منذ ساعات الصباح الباكر، بعينين متعبتين وصوت متهدّج، يتحدّث عن شابّ يبلغ من العمر 22 عاماً، جندي في الاحتياط، أتى إلى منزل ذويه هذه الليلة لقضاء إجازته الشهرية، “عثرت على جثّته تحت الركام، شابّ انتهى في مقتبل حياته”.
وحدّثني عن جثث أخرى سحبها من بين ألسنة النار، وعن أشلاء عثر عليها تحت الأسقف المنهارة: “وجدنا أماً وابنتها، كانتا تحتضنان بعضهما بعضاً. لم يبقَ من جسديهما سوى النصف العلوي”، ويضيف “عثرنا أيضاً على هاتف بين الأنقاض، تفحّصته وعرفت أنه هاتف لرجل مسنّ… ظللت أحفر وأزيل الركام، قلت لا بدّ أن تكون جثّته قريبة أو ربما ما زال على قيد الحياة، إلى أن عثرت على أشلائه بعد ساعات من العمل المضني”.
قال لي أحدّ الشبان إنه يعتقد أن الهدف المحتمل للغارة في هذا المكان، هو مسؤول حكومي يعيش بشكل متخفّ هنا، ويضيف: “كنت أسمع الناس في الحيّ يهمسون باسمه سراً، ويشيرون إلى المنزل ويقولون: هذا منزل ذو الفقاري”، لكنّني لست متأكداً، لا أحد يعرف شيئاً هنا.
لكن بحسب شهادة السكّان، بعد الغارة دخلت سيارة إسعاف إلى الزقاق بهدوء، نزل منها رجال ومسعفون وانتشلوا جثّة من تحت الأنقاض، ونقلوها بسرعة إلى الإسعاف، وخرجوا كما دخلوا، بعدها سيطر التوتّر على الحيّ، وطوّقت قوّات الأمن المنطقة ومنعت التصوير.
إلى جانب جدار متصدّع، يقف مسعف شابّ، يحدّق ببقعة من الدماء على الأرض، متعباً صامتاً بعد ساعات من عمليّات البحث والإنقاذ، ومشاهد الجثث المتفحّمة والأشلاء، يقول لي: “لم أكن أتوقّع أن يشهد جيلنا الحرب… لكنّها ها هي في ديارنا الآن، وها نحن نراها بأمّ أعيننا”، يأخذ قضمة صغيرة من شطيرته، ونظره ما يزال ثابتاً على بقعة الدماء.
إنها الحرب… وصلت إلى بيوتنا في طهران من دون سابق إنذار. الناس هنا لا يعرفون سببها، ولا يهمّهم سببها، الناس هنا فقط يدفعون ثمنها.