بينما تتحرك المرحلة الانتقالية في سوريا بخطى حذرة وسط زخم سياسي وعسكري معقد، يظل ملف إعادة بناء المؤسسة العسكرية من أعقد الملفات وأشدّها حساسية. ليس فقط بسبب كثافة السلاح وتعدد مصادره، بل لأن الجيش القادم يفترض أن يكون الممثل الأول للهوية الوطنية الجديدة، بعيدًا عن الطائفية والمناطقية والفصائلية التي عمّقت شرخ المجتمع السوري على مدى أكثر من عقد.
ومع تزايد الدعوات لتوحيد البندقية السورية تحت راية الدولة، يتكرس تساؤل جوهري: هل يمكن بناء جيش وطني فعلاً في ظل هذه التحديات البنيوية والذهنية؟
للإجابة عن هذا السؤال، حاور “963+” الضابط السوري السابق، والباحث المتخصص في الشؤون العسكرية والسياسية رشيد حوراني، الذي قدم رؤية تحليلية متعمقة تنطلق من الواقع وتلامس المستقبل، محاولاً رسم ملامح ممكنة لبنية جيش سوري جامع.
هل يمكن الوصول إلى جيش سوري وطني يضم الجميع بعيداً عن الحالة الفصائلية والولاءات المناطقية والطائفية؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك؟
نعم، يمكن الوصول إلى جيش وطني جامع، ويمكن القول إن نواته قد بدأت بالتشكل فعلاً، مع انضمام عدد من الفصائل الثورية من الشمال السوري، ووجود فصائل من السويداء، بل وحتى بعض التشكيلات الكردية ضمن الهيكل العسكري العام.
صحيح أن البعد المناطقي والديني لا يزال حاضراً، لكنه لم يعد بالحجم أو الحدة التي كانت سائدة سابقا.
ولتحقيق هذا الهدف، يجب العمل على مسارين متوازيين: الأول تنظيمي بنيوي: يقوم على دمج الفصائل في تشكيلات أكبر، بحيث يتحول الفصيل (أ) إلى لواء ضمن فرقة عسكرية تتبع قيادة مركزية، ما يساهم في ضبط القرار العسكري وإنهاء الحالة الفصائلية تدريجياً. والثاني معنوي توعوي: يتمثل في إعداد برامج وطنية للتوجيه المعنوي، تكرّس هوية جامعة للمقاتل السوري، وتنأى به عن الانتماءات الأيديولوجية أو المناطقية الضيقة.
العديد من الفصائل التي تشكل الجيش اليوم هي ذات خلفيات إسلامية. كيف يمكن تجاوز هذه الصورة النمطية، وإعادة أدلجة الأفراد باتجاه ما هو وطني؟
هذا تحدٍّ واقعي لا يمكن إنكاره، ولذلك بدأت وزارة الدفاع بالفعل بوضع برامج توجيه معنوي تعزز الانتماء الوطني. هذه البرامج تشمل إعداد مناهج فكرية جديدة، وإصدار لوائح للسلوك والانضباط العسكري.
كما جرى تفعيل جهاز الرقابة والتفتيش في الوحدات العسكرية لضمان التزام العناصر بثقافة المؤسسة، وتخفيف تأثير الخلفيات العقائدية الضيقة على الأداء العسكري.
كيف يمكن تحقيق المعايير الدولية المطلوبة للهياكل العسكرية الوطنية في الجيش السوري الجديد؟
تحقيق هذه المعايير يتم على مراحل وقد بدأ فعلاً. أولاً، هناك استعداد حقيقي من دول مثل الولايات المتحدة، بريطانيا، تركيا، والسعودية لدعم مشروع التدريب والتسليح، وهذا في حد ذاته اعتراف دولي بجدية المشروع.
ثانياً، شرعت وزارة الدفاع في إعادة هيكلة الوحدات العسكرية وفق النماذج المعتمدة عالمياً، من حيث تسلسل القيادة، التخصصات القتالية، وحدات الدعم، والتدريب المستمر.
وقد أعلن وزير الدفاع اللواء مرهف أبو قصرة عن استمرار هذه الجهود بما يتماشى مع المعايير الدولية.
ملف “قسد” يعتبر من أبرز الملفات المعقدة أمام عملية دمج الفصائل. كيف يمكن حل هذا الملف وتنفيذ اتفاق آذار الماضي؟ وهل يمكن القبول بضمها ككتلة واحدة؟
هذا الملف حساس للغاية، والحكومة تعاملت معه بدقّة لتفادي تكرار تجارب سابقة ساهمت في تعميق الشرخ بين العرب والكرد. لذلك، تم فتح قنوات تواصل مباشرة وغير مباشرة مع “قسد”، بما في ذلك إشارات سياسية مثل اللقاءات مع مسؤولين دوليين وتخفيف بعض العقوبات.
أما من حيث الدمج، فالاتفاق ينص بوضوح على استيعاب الأفراد والقادة داخل المؤسسة العسكرية، دون الإبقاء على أي تشكيل كردي مستقل.
بعض القيادات الكردية ستُمنح مناصب ضمن الجيش، كما حدث مع قيادات فصائل أخرى من مناطق مختلفة. وبهذا الشكل، يتم تعزيز وحدة الجيش ومنع نشوء “جيش داخل جيش”.
لماذا تفشل حتى الآن محاولات ضم الفصائل المحلية في السويداء إلى المؤسسة العسكرية؟
بعض الفصائل في السويداء بدأت بالفعل بالانخراط في إطار الدولة، مثل جماعة سليمان عبد الباقي وليث البلعوس. كذلك، قام الأمن العام بتجنيد أكثر من 600 شاب من أبناء المحافظة.
الطرف الآخر، الذي يقوده الشيخ حكمت الهجري، لا يزال متحفظاً، لكن المقاربة الحالية لا تسعى إلى الصدام، بل إلى تفكيك النفوذ تدريجياً عبر تفعيل المؤسسات الرسمية وتعزيز الحضور المدني والعسكري.
لهذا نلاحظ أن الشيخ الهجري يطلق تصريحات متفرقة في محاولة للحفاظ على موقعه، دون الذهاب نحو المواجهة المباشرة.
هل ترى أن الموافقة على ضم الأجانب إلى الجيش السوري خطوة في الاتجاه الصحيح؟
أعتقد أن هذا الملف يجب أن يُعالج بمرونة وواقعية. أولاً، عدد المقاتلين الأجانب المتبقين في سوريا ليس كبيراً ولا يشكل كتلة حرجة. ثانياً، كثير منهم تزوج من سوريات وأصبح جزءاً من النسيج الاجتماعي، بل واتجه بعضهم إلى العمل المدني منذ ما قبل سقوط النظام السابق.
إذا تقرر ضمهم، فيجب أن يكون ذلك ضمن اتفاقيات دولية تضمن بقائهم في سوريا بشروط واضحة، وخاصة من يرغب في الانخراط العسكري، إذ سيُلزم بالالتزام بالقوانين والمعايير الوطنية. وطالما أنهم لا يشكّلون تهديداً للمشروع الوطني، يمكن التعامل معهم كملف مرحلي.
يؤكد رشيد حوراني في ختام حواره مع “963+” أن مشروع إعادة بناء الجيش ليس مسألة تقنية أو إدارية فحسب، بل مشروع وطني شامل يتطلب إعادة صياغة للعقلية العسكرية والانتماء الجمعي. نجاحه سيعني امتلاك الدولة لأداتها السيادية الأولى، وفشله سيعيد إنتاج الانقسامات ذاتها تحت غطاء مختلف.