في قلب جبل صخري قرب مدينة قم، وعلى عمق يصل إلى نحو 90 متراً تحت الأرض، تقع منشأة «فوردو» النووية، التي تُعد من أكثر المواقع تحصيناً في البنية التحتية النووية الإيرانية. هذه المنشأة، التي كان يُحظر على إيران بموجب اتفاق 2015 استخدامها لأغراض التخصيب، أصبحت اليوم تنتج الجزء الأكبر من اليورانيوم الإيراني المخصب بنسبة تصل إلى 60 في المائة، وهي نسبة تقترب تقنياً من المستوى المستخدم في تصنيع الأسلحة النووية.
ومع تصاعد وتيرة التهديدات الإسرائيلية، وازدياد المؤشرات على تحرك عسكري محتمل، تزداد التساؤلات حول ما إذا كانت «فوردو» ستصبح الهدف التالي في المواجهة.
ويشكل موقع «فوردو» تحدياً كبيراً لأي عملية عسكرية تستهدف البرنامج النووي الإيراني. ولا تمتلك إسرائيل، رغم قدراتها الجوية، الوسائل اللازمة لاختراق عمق التحصينات الجبلية المحيطة بالموقع.
وتشير تصريحات المسؤولين الأميركيين إلى أن تدمير الموقع يتطلب قدرات لا تمتلكها إسرائيل وحدها، بل تحتاج إلى دعم أميركي مباشر، مما يفتح الباب أمام سيناريو تدخل أوسع قد يجعل من «فوردو» الشرارة التي تُشعل صراعاً مباشراً بين واشنطن وطهران.
وحذرت طهران من أن أي هجوم أميركي قد يؤدي إلى رد إيراني يستهدف القواعد الأميركية في المنطقة، مما قد يجرّ واشنطن إلى صراع طويل الأمد مع طهران.
ويعتقد محللون عسكريون أن إسرائيل قد تحتاج إلى مساعدة عسكرية أميركية لتدمير محطة «فوردو». وتعد الولايات المتحدة التي نشرت حاملة طائرات ثالثة في المنطقة، الدولة الوحيدة التي تملك قنبلة «جي بي يو-57» القادرة على تدمير المنشآت النووية الإيرانية الموجودة في عمق الأرض، في «فوردو».
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، ذكر مسؤول أمني إسرائيلي كبير سابق لـ«رويترز» أن الدعم العسكري الأميركي ضروري لتدمير منشأة «فوردو». وقال وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس إن المنشأة النووية الإيرانية في «فوردو»، حيث تم حفر موقع التخصيب في جبل، هي مشكلة ستُحل «بالطبع».
وفي إشارة إلى تدمير أو تفكيك محطة «فوردو» الإيرانية لتخصيب اليورانيوم، قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب: «نحن الوحيدون الذين لدينا القدرة على فعل ذلك. لكن هذا لا يعني أنني سأفعل ذلك».
وقال السفير الإسرائيلي لدى واشنطن، يحيئيل لايتر، لقناة «فوكس نيوز» الجمعة: «العملية بأكملها يجب أن تُستكمل بالقضاء على (فوردو)».
ونقل موقع «أكسيوس» الأربعاء، عن مسؤول أميركي رفيع قوله: «القنبلة الخارقة للتحصينات ستنجح. ليست هناك مشكلة قدرات، لدينا الإمكانات. لكن هناك خطة كاملة وراءها، الأمر لا يقتصر على إسقاط قنبلة وإعلان النصر».
وأضاف: «نهاية اللعبة لنا واضحة: لا لسلاح نووي. قد يختلف ذلك بالنسبة إلى الإسرائيليين. وإذا اقتضى الأمر، نحن مستعدون لضربة دقيقة، إذا كانت منطقية وفعّالة، حسب رأي الرئيس».
وقال مسؤول أميركي إن الإسرائيليين أبلغوا إدارة ترمب بأنهم قد لا يتمكنون من اختراق الجبل بالقنابل، لكنهم «قد يتمكنون من ذلك عبر العمليات البشرية».
محطة «فوردو» لتخصيب الوقود
أكد مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، الاثنين، أن أعمق موقع تخصيب في إيران، والمحفور في جبل، لم يتعرض لأضرار وفقاً لما يمكن رؤيته.
ورغم أنه لا يعمل فيه سوى نحو ألفي جهاز طرد مركزي، فهو ينتج الغالبية العظمى من اليورانيوم الإيراني المخصب إلى 60 في المائة، باستخدام العدد نفسه من أجهزة الطرد المركزي تقريباً التي كانت تعمل في محطة التخصيب التجريبية في نطنز، لأنه يعتمد على التغذية باليورانيوم المخصب إلى 20 في المائة في تلك السلاسل، مقارنةً مع 5 في المائة في محطة «نطنز» التجريبية.
وبالتالي، أنتجت «فوردو» 166.6 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب إلى 60 في المائة في الربع الأخير. ووفقاً لمقياس «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، فإن ذلك يكفي من حيث المبدأ، إذا ما جرى تخصيبه بدرجة أكبر، لأقل من أربعة أسلحة نووية بقليل، مقارنةً بنحو 19.2 كيلوغرام في محطة تخصيب الوقود النووي التجريبية، أي أقل من نصف الكمية اللازمة لقنبلة.
تقع منشأة «فوردو» لتخصيب اليورانيوم، في منطقة جبلية قرب قرية «فوردو»، على بُعد نحو 20 كيلومتراً جنوب شرقي مدينة قم، وعلى مسافة تقارب 90 إلى 100 كيلومتر من العاصمة طهران.
لم يسمح الاتفاق الذي تسنَّى التوصل إليه عام 2015 مع القوى الكبرى لإيران بالتخصيب في «فوردو» على الإطلاق. ولديها الآن أكثر من ألفَي جهاز طرد مركزي تعمل هناك، ومعظمها من أجهزة «آي.آر-6» المتقدمة التي يعمل 350 جهازاً منها على التخصيب حتى نسبة نقاء 60 في المائة.
في عام 2009 أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أن إيران كانت تبني منشأة «فوردو» سراً لسنوات، وأنها تقاعست عن إبلاغ وكالة الطاقة الذرية. وقال الرئيس الأميركي باراك أوباما آنذاك: «لا يتفق حجم هذه المنشأة وتكوينها مع برنامج سلمي».
بُنيت المنشأة داخل جبل صخري، ووفقاً لمصادر متعددة، فإن الأجزاء الحساسة منها تقع على عمق يتراوح بين 80 و90 متراً تحت الأرض. وقد صُممت بهذا الشكل تحديداً لحمايتها من الهجمات الجوية والضربات الصاروخية بعيدة المدى.
وتتمتع منشأة «فوردو» بأهمية استراتيجية بسبب موقعها الجغرافي وتحصيناتها الطبيعية. وهي مُحاطة بشبكة دفاع جوي قوية تضم منظومات مثل «باور 373» الإيرانية و«إس 300» الروسية، المنتشرة في محيط مدينة قم، بالإضافة إلى منظومات رادارية متقدمة، لكنَّ هذه القدرات تراجعت بشكل كبير جراء الهجمات الإسرائيلية في الأيام الأخيرة، وكذلك الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف الدفاعات الجوية الإيرانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
إلى جانب الدفاعات الجوية، تنتشر في محيط الموقع وحدات من «الحرس الثوري» الإيراني، وقوات التعبئة (الباسيج)، التي توفر حماية مباشرة من الهجمات البرية أو الإنزالات الخاصة. كما تُستخدم المنطقة المحيطة، بما في ذلك شبكة الطرق والجسور، لنقل المعدات والدعم اللوجيستي بشكل مستمر.
في الأشهر الأخيرة، بثت وسائل إعلام إيرانية تقارير مصورة عن تفعيل الدفاعات الجوية في قم، وتحديداً قرب منشأة «فوردو»، بعد تداول أنباء عن استهداف الموقع بضربات إسرائيلية. ورغم عدم وقوع إصابات بشرية، أفادت المصادر الإيرانية بوجود انفجارات قرب المنشأة. ويوم الاثنين سجَّل مركز الزلزال الإيراني هزة أرضية بقوة 2.5 على مقياس ريختر.
ويقول الخبراء إن هذه المعطيات تدل على أن منشأة «فوردو» ليست مجرد موقع نووي تقني، بل تُعد جزءاً من البنية العسكرية الدفاعية لإيران. ويتطلب تدميرها أو اختراقها عسكرياً تنسيقاً معقداً، وقد يجرّ المنطقة إلى مواجهة شاملة. لذلك، تظل «فوردو» من أكثر الأهداف حساسية في أي سيناريو محتمل للصراع بين إيران وإسرائيل أو مع الولايات المتحدة.