ان الاعتداء الغاشم الذي تعرضت له كنيسة مار الياس للروم الأرثوذكس في دمشق يوم امس انما هو مؤشر خطير للغاية ان دل على شيء فهو يدل ان في سوريا وفي غيرها من البلدان في منطقتنا العربية هنالك قنبلة موقوتة يراد من خلالها اثارة الرعب والخوف والهلع لدى المسيحيين وغيرهم من المواطنين.
انه مخطط شيطاني تؤججه وتموله وتغذيه جهات استعمارية مشبوهة هدفها افراغ منطقتنا العربية من المسيحيين وغيرهم من المواطنين والذين هم مكون أساسي من مكونات امتنا ومشرقنا .
ان ما حدث البارحة في دمشق انما هو مؤشر خطير ليس فقط لما يحدث في سوريا بل أيضا لما قد يحدث في أي مكان في منطقتنا العربية لا سيما ان أولئك الذين يتبنون الفكر الداعشي الاقصائي هم موجودون في كل مكان ، ويمكن ان يكونوا خلايا نائمة في بعض الأماكن قد يتم ايقاذها في الوقت الذي تريد الجهات الموجهة والممولة ذلك.
ليست المرة الأولى التي يعتدى فيها على الكنائس وعلى غيرها من دور العبادة في هذا المشرق ويبدو انها لن تكون الأخيرة اذا لم تتخذ التدابير الوقائية والإجراءات الهادفة لاقتلاع هذا الفكر الداعشي الهدام من مجتمعنا وهو فكر يندرج في اطار التآمر على امتنا وقضاياها العادلة وفي المقدمة منها قضية فلسطين .
فبدلا من ان نكون جميعا موحدين في دفاعنا عن قضايانا الوطنية وفي المقدمة منها قضية فلسطين والمناداة بوقف حرب الإبادة في غزة ، فإن أعداء هذه الامة بكافة مسمياتهم واوصافهم يسعون لتقسيمنا وشرذمتنا وتفكيكنا تحت شعارات دينية وتحت غطاء ديني والدين من كل هذا براء .
ان هجرة المسيحيين من هذا المشرق هي مستمرة ومتواصلة فهنالك تراجع دراماتيكي في اعداد المسيحيين ليس فقط في فلسطين بل أيضا في الأقطار العربية التي تحيط بنا حيث بات المسيحيون لا يشعرون بالامن والأمان في ظل انتشار غير مسبوق للخطاب الداعشي الاقصائي الهمجي والغير انساني.
وهنا نطرح السؤال التالي ما هو الحل وكيف يمكن مواجهة هذه المعضلة:
– أولا ان الجرائم الإرهابية التي استهدفت الكنائس كما وغيرها من دور العبادة في هذا المشرق وفي حقب تاريخية متعددة يجب اعتبارها تعد على الامة كلها وليس على طرف دون الاخر ، والاعتداء الذي طال كنيسة مار الياس في دمشق يوم امس هو اعتداء على سوريا كلها واعتداء على الامة كلها واعتداء مباشر على الحضور المسيحي العريق والاصيل في هذا المشرق.
– نقدر عاليا بيانات الشجب والاستنكار التي صدرت ومن كافة المرجعيات الروحية المسيحية والإسلامية فهذا موقف يجب ان ينادي به الجميع ويتبناه كل انسان حر ولكن بيانات الشجب والاستنكار لوحدها ليست كافية اذا لم تكن مقرونة بمبادرات خلاقة هادفة لمحاصرة هذا الفكر الهمجي الدموي الذي يحلل دم كل انسان يختلف معهم في الرأي سواء كان مسيحيا او غير ذلك.
– هنالك أهمية كبرى ان تقوم المؤسسات الدينية بدورها المأمول في توعية الأجيال فشبابنا يجب ان يتعلموا بأن الدين الحقيقي هو ليس اقصاء للاخر بل هو محبة ورحمة وإنسانية ولا يجوز ان تترسخ في نفوس وعقول ابناءنا ثقافة الاقصاء والكراهية تجاه الاخر الذي يختلف عنا في معتقده او دينه.
– ان التفجير الأخير وغيره أيضا من المظاهر السلبية ان دلت على شيء فهي تدل على اننا بحاجة الى انتفاضة ثقافية فكرية في مجتمعاتنا لكي لا يكون ابناءنا ضحية للجهل والتخلف .
– الثقافة والمعرفة هي ركن أساسي من اركان بناء الأوطان ، وبغياب الثقافة والمعرفة يكون الانسان عدو ما يجهل وفي كثير من الأحيان نلحظ ان ظاهرة الجهل منتشرة في اكثر من مكان في هذا المشرق .
– ان غياب المسيحيين وهجرتهم من منطقتنا العربية انما هي خسارة لهذا المشرق كله بكافة مكوناته فهي ليست خسارة للكنائس وللمسيحيين لوحدهم الذين يخسرون اوطانهم بل هي خسارة لهذه الأوطان التي تخسر مكون أساسي من مكوناتها ومن يقرأ التاريخ يعرف جيدا ما قدمه المسيحيون كما وغيرهم من ابداعات وثقافة ورقي ومساهمات بارزة في تحرير الأوطان من الاستعمار وفي الدفاع عن قضايا الامة وفي المقدمة منها قضية فلسطين.
– ان ما حدث البارحة في دمشق انما يدق ناقوس الخطر وهو انه ليس فقط المسيحيون في خطر بل الأوطان في خطر والعروبة في خطر وكل شيء جميل وحضاري في مشرقنا في خطر ولا يجوز لنا ان نستسلم لاولئك الذين يريدوننا ان نكون غارقين في هذه الاخطار وفي هذه المظاهر السلبية والمأساوية والكارثية .
– ان شهداء كنيسة دمشق هم قديسون جدد وأولئك الذين قاموا بهذه الجريمة ظنا منهم انها ستدخلهم الى الجنة فهم في الواقع قد خسروا الجنة وذهبوا الى مزابل التاريخ لان ما اقدموا عليه لا يحلله أي دين ولا تقبل به اية قيم إنسانية او أخلاقية او حضارية .
– كم نحن بحاجة للثقافة وتكريس القيم الإنسانية والروحية النبيلة في هذا الزمن الرديء الذي فيه يراد حرف بوصلتنا وتشويه انتماءنا والنيل من عراقة وجودنا.
– أقول للمسيحيين في هذا المشرق وخاصة في سوريا بأنه في حقب الاضطهادات التي تعرضت لها الكنيسة لم تتمكن اية قوة غاشمة من النيل من مكانة الكنيسة وحضورها ورسالتها ومهما سعوا لاضطهادنا والنيل من حضورنا فنحن باقون في ديارنا وفي مشرقنا وستبقى كنائسنا حاملة لرسالة المحبة والاخوة والسلام رغما عن كل آلامنا واوجاعنا واحزاننا .
– أقول للمسيحيين في هذا المشرق كونوا على قدر كبير من الوعي والرصانة والتمسك بانتماءكم الروحي وهويتكم المشرقية والوطنية فلا تسمحوا لقوى الشر في هذا العالم من ان تنال من اصالة وجودكم وجذوركم العميقة في تربة هذا المشرق .
– رحم الله شهداء كنيسة دمشق ومنح الجرحى شفاء وعزى قلوب ذويهم مع تمنياتنا بأن تقوم السلطات الحاكمة في دمشق بالإجراءات المطلوبة لكي لا تتكرر هذه المشاهد الدموية .
– ونحن في القدس نقول لمن يجب ان تصله رسالتنا بأننا هنا باقون وستبقى أجراس كنائسنا تقرع وسيبقى حضورنا المسيحي (وان كنا قلة في عددنا) حضورا فاعلا في الخدمة والعطاء والتعبير عن الثوابت الوطنية والانتماء الوطني الأصيل والمناداة بتحقيق العدالة في هذه الديار ووقف حرب الإبادة.
– لاولئك الذين يتفننون في احزمتهم الناسفة وفي توجيه رصاصاتهم الغادرة أقول لهم بأن الله محبة وانتم في حالة تيه وضياع .
– لا للارهاب لا للعنف لا للقتل لا للحروب ولاستهداف دور العبادة ، نعم للمحبة والرحمة والاخوة الإنسانية ، نعم للدولة المدنية التي تحترم حقوق مواطنيها جميعا.
– نعم لفلسطين الحرة ونعم لوقف حرب الإبادة التي تستهدف أهلنا في غزة.
المطران عطا الله حنا
رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس
القدس 23/6/2025