مع القراءة، تتنحى الأسئلة إلى الحواشي لتسلم القارئ إلى 391 صفحة من سردٍ بديع وسلس، ومسترسلٍ كنهر، وموجعٍ كصفع الصخور لموج البحر، وكأنّ انسياب النهر، وتكسّر موجات البحر الهائج صنوان أبديان في غمار الحياة. سلسالُ رويٍ بالغُ الصدق في استكشاف الذات، ومحكَم النسج بخبرة كاتبٍ مخضرم، بينما هو في الواقع باكورة أعمال الكاتبة.
العنوان: تكتب الصايغ في الصفحة 203: (الألم هو ميثاقنا المقدس)، ثم ص 305: (ميثاقٌ من التضامن والفهم والوجع لم يخطه أحد في كتاب، ولم يفرضه أحد على النساء، يجعلنا نتواصل ونترابط كما تتعانق جذور السنديان تحت سطح الأرض). لكنّ القارئ المطّلع لن ينجو من تفسيرٍ آخر متّصلٍ ببيئة الرواية. “ميثاق النساء” هو عنوان إحدى أهمّ رسائل الحكمة (كتب الدين للموحدين الدروز)، المغلقة سوى على المتدينين/ ات منهم. هل اختارت هذا العنوان لإمكانية إحالة معناه إلى ميثاق الألم؟ أم تقصّدت اقتباسه من رسالة “ميثاق النساء”، التي اختارها المشرّع من بين عشرات رسائل الحكمة ليضمّنها الخصال التوحيدية السبع، التي على الموحدين/ ات الدروز أن يتحلّوا بها ليتحقق إيمانُهم، (وهي بالمناسبة موجودة على صفحات فيسبوك، كونها لم تعد سرًّا منذ ابتدأ عصر الإنترنت)؟
بيئة الرواية: تدرك الصايغ، أكثر من أي أحدٍ آخر، أنها إذ تفتح سراديب المجتمع الدرزي المتدين في ريف لبنان، فسوف تمشي ليس كما يقال في حقل ألغام قد يسعفها الحظ بعبوره ناجية، بل كمن تقتحم مملكة النحل من غير أن تحتمي ببدلة العسّال، ولن تخرج بالعسل المقطوف إلا وقد طاولت اللسعات كل سنتمتر من جسدها، وفي حالة الكتابة، كل سنتمترٍ افتراضي من روحها. كل هذا ولم تتعدّ الكاتبة أن تغرف من هذا المجتمع وتقدّمه بواقعية، غير مشغولةٍ بالإدانة، أو الأحكام، بل ربما كان في بالها: ما ضرّ لو أشيعت فلسفة حياة هؤلاء الدروز الغامضين المريبين وطريقة عيشهم؟ أما كانت لتجعلهم غير مريبين، وتُقرّبهم من الآخر وتقرّبه إليه، أليست هذه إحدى مهمات الأدب؟!
إنها جرأةٌ بليغةٌ تقترفها الصايغ، كامرأةٍ من داخل هذا البيت المسيّج، أن تكسّر جدرانه وتكشف للغرباء ماذا خلفها. قد تجاوز عمرُ المجتمعٍ الدرزيّ ألف عام، وهو يؤمن أنّ أهم شروط بقائه وتماسكه هي الحفاظ على باطنيته، وعلى نقاء سلالته، وإلا لتبدّد، أو اندثر.
شخوص الرواية: ليسوا كثيرين، انتقتهم الكاتبة بدقةٍ وذكاء، مع مساحةٍ وافية لكل منهم تستوفي بمجموعها ديناميكية مجتمعهم الريفيّ عبر ثلاثة أجيال، تروي عنها أمل أبو نمر بدءًا بجدها وجدتها: نطق الجد في لحظة غضب بطلاق زوجته، فحرّمت أحكام الدين لقاءهما بعدها. لهذا بنوا جدارًا يقسم غرفتهما الواحدة إلى نصفين، عاش واحدهما لعقود خلف أحد جانبيه، يسمع هسيس حبيبه من خلف الجدار، ويطحنه الشوق إليه، وحرامٌ أن يضمه، أو يلتقيه، أو حتى يسمع صوته، (وهذا من أجمل المشاهد الروائية وأعمقها وجعًا)، وبعد موت الجد ظل محرّمًا على الجدة أن تودّعه وهو مسجّى على نعشه بسبب أحكام الدين نفسها. ثم العمة سليمة المشغولة بهلوساتها، والأب علي، الذي لم يرزق سوى بالإناث، ولم يعترض، أو يكفر بنصيبه، ليس لرضاه واكتفائه بهن، إنما عن استسلامٍ كليّ لفروض الدين كيلا يخسر آخرته. لم يسمح بتعليمهن أبعد من الثانوية، لأنه لا يجوز للبنت أن تسافر “أبعد من مسرح دجاجة”. والأم نبيلة، المقهورة، التي أعطت بناتها كل الحب كما تفهمه هي، وعاشت تلهي نفسها بالعمل كي تساعد زوجها في مصروف العائلة، وكيلا تخرّب حياتها إن تركتْ لنفسها وقتًا للتفكير بالدين، أو بعدالة الحياة. ينتهي المطاف بابنتهما نرمين، ابنتهما الثائرة الغاضبة، بعد زواجها وإقامتها في أميركا لخمسة عشر عامًا أن تعود منقادة إلى قفص الدين، تكفّر داخله عن خطاياها. أما أمل، صغرى بناته، ورائدة الجيل الثالث في الأسرة، فتعقد صفقة القبول بسالم، العريس غير المتدين، تساومه على أن تقبل به إن وافق على إكمال تعليمها.
وسالم هذا يمكن أن يكون الزوج النموذجي الذي قد يحمل القارئ أحيانًا على التعاطف معه. لم يعنّف أمل بالمألوف من أشكال التعنيف، وقد هادن ظاهرًا مع تعليمها، لكنّها في واقع الأمر مرتهنةٌ إلى رغباته بسبب حاجتها إلى غطائه الماديّ، ما جعل كفاحها لا يتعدى تحسين شروط سجنها حتى أكملت تعليمها الجامعي. تنعتق رحمة، ابنة أمل، وممثلة الجيل الرابع من العائلة، من بعض أحكام مجتمعها، وتكون ابنة زمنها. كانت رحمةُ ابنة تسع سنين حيث واستْ أمها: سوف تلتقين بالحب يا أمي!
لن يفهم أحد من محيط أمل أبو نمر لماذا هي ليست سعيدة مع زوجها، وهي لا بد تجربة تعيشها مئات الألوف من النساء في مجتمعٍ حاله كحال معظم مجتمعاتنا العربية التي تثقل كواهلها بأولويات تأمين الخبز والمسكن، واستيعاب الأطفال في مدارس، وتربّي الخوف في وعي الإنسان ولا وعيه، ليصبح أمر امتلاك المرأة لقرارها ولجسدها أشبه بأحلام دونكيشوت. في هذا المحيط ربيتْ أمل. وبالبصيرة التي يربيها الأعمى في غياب البصر، راحت تصنع أدوات وعيها وتمكينها لتنهض من تحت جبال السلطات، الأبوية والدينية والاجتماعية. لم يدعمها في رحلة اكتشافها لنفسها لا رجلٌ ولا منظمةٌ ولا حزب، ولم تلجأ إلى الكره أو النقمة أو الاستكانة أو الاستغاثة. اتّكأت على اجتهادها وحده وهي تقاتل من أجل أن تكون مرئيةً ثم مستقلّةً تواجه العالم بإنجازها، وتصبح جاهزة للقاء الحب. الحب الذي يعني (أن نتجاذب كرة النار، لا أن نتقاذفها).
روايةٌ تحتفي بالوعي كصانعٍ للثورة البيضاء، وقد تغني استضافتها في ورشات تمكين النساء عن شروحٍ طويلة حول أدواته. وحين يقرؤها الرجال والنساء على السواء، سيقترب كلّ منهم أكثر من نفسه وشريكه.