فيما تضجّ وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية بكتاباتٍ تتحدّث عن لقاءات ومفاوضات إسرائيلية سورية (مباشرة وغير مباشرة)، تلوذ الإدارة السورية، كعادتها، بالصمت، تاركة الرأي العام السوري نهباً للتأويلات والتكهنات والشائعات، وبعضها يصل إلى حدود الخيال، كالطرح “العجيب” الذي نقلته شبكة 24 الإخبارية الإسرائيلية عن مقترح لتبادل أراض بين سورية وإسرائيل في الجولان وشمال لبنان! … يسري هذا النهج في انعدام الشفافية، وتجاهل الرأي العام السوري، على كل شيء تقريباً، من الصفقات التجارية الكبرى، إلى العلاقات الخارجية، ومن ضمنها الأثمان التي تقاضاها الأميركان لقاء رفع العقوبات، وتصنيف الإرهاب، عن سورية، إلى اتفاقات التسوية مع رموز النظام السابق، وغيرها. ولكن لموضوع التسوية مع إسرائيل حسابات مختلفة عند السوريين، لارتباطه بتاريخ بلادهم المعاصر، هويتها العربية، وترابها الوطني. ولولا أن المبعوث الأميركي توماس برّاك يتبرع أحياناً بإطلاعنا على بعض ما يدور في مسار(ات) التفاوض بين سورية وإسرائيل، لما عرفنا أين وصلت الأمور، وهي، بحسبه، تسير بسرعة. هذا لجهة الشكل. أما لجهة المضمون، فنحن أمام احتمالين، إما أن التعاطي مع قضية شائكة ومعقدة، مثل المفاوضات مع إسرائيل، يجري بشيء من البساطة والاستخفاف، شأن كل شيء آخر، أو أن الرأي العام السوري يتعرّض لعملية خداع ممنهج، بحيث يجد نفسه، في نهاية المطاف، أمام واقعٍ لا يملك حياله شيئاً.
تشير الرواية التي يمكن تركيبها من الشذرات التي تصل إلينا إلى أن الإدارة السورية تسعى حاليّاً إلى اتفاق أمني مع إسرائيل تنتزع بموجبه ثلاثة مطالب رئيسة: أولها، انسحاب إسرائيلي إلى حدود الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، وعودة العمل باتفاق فصل القوات لعام 1974، وهو الاتفاق الذي أوقف القتال بين سورية وإسرائيل في حرب الاستنزاف التي تلت حرب تشرين (الأول)/ أكتوبر 1973، مع ترتيبات أمنية جديدة. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد أعلن يوم 11 ديسمبر/ كانون الأول 2024 (عقب ثلاثة أيام من سقوط نظام الأسد)، عن انسحاب إسرائيل من اتفاق فصل القوات (1974)، بحجّة انهيار الجيش السوري وعدم وجود طرف مقابل على الحدود لتنفيذه. وقد اتّخذت إسرائيل من ذلك ذريعة للتوغّل في الأراضي السورية، حيث احتلت كامل المنطقة العازلة، ومناطق أخرى، بمساحة اجمالية تصل إلى حوالي 600 كم مربع. ثانياً، أن توقف إسرائيل اعتداءاتها على الأراضي السورية، وهي بدأتها عام 2012، وتصاعدت في العامين الأخيرين (بعد عملية طوفان الأقصى)، وبلغت ذروتها بعد سقوط نظام الأسد، عندما شنّت إسرائيل واحدة من أكبر حملاتها الجوية ضد سورية ودمرت ما يقارب 85% من قدراتها العسكرية. ثالثاً، وهو المطلب الأكثر غرابة، انتزاع اعترافٍ من إسرائيل بوحدة الأراضي السورية، والكفّ عن محاولات تفتيتها من خلال دعم مكوّنات اجتماعية وسياسية سورية مختلفة وتشجيعها على الخروج عن سلطة دمشق.
السؤال الكبير هنا: لماذا تفعل إسرائيل ذلك، وبأي ثمن؟ في الظروف والأوضاع التي طرأت في المنطقة بعد “طوفان الأقصى”، لم تعد إسرائيل ترضى من الجانب السوري مجرّد حراسة الحدود، كما كان يفعل نظام الأسد نصف قرن. كما لم يعد، وفق موازين القوة الحالية، ممكناً، بالنسبة لإسرائيل، العودة إلى قواعد المفاوضات القديمة القائمة على مبدأ “الأمن/ السلام مقابل الأرض”، الذي انعقد على أساسه مؤتمر مدريد (1991)، أو مبدأ “التطبيع مقابل الأرض” الذي أقرّته مبادرة السلام العربية (2002). فإسرائيل، تشعر اليوم بفائض قوة غير مسبوق في تاريخ صراعها مع العرب، وصارت تعتمد شعار إدارة ترامب “السلام من خلال القوة”، وهي نفسها سياسة “السلام عبر الهيمنة” (Pax Americana)، التي تبنّتها واشنطن بعد انتهاء الحرب الباردة.
المعروف، فوق ذلك، أن إسرائيل تعتمد تاريخيّاً سياسة احتلال أراض جديدة حتى تدفع خصمها إلى الإقرار بسيادتها على الأراضي التي احتلتها قبل ذلك. هذا ما حصل بعد حرب 1967، حيث سلّم العرب بسيادة إسرائيل على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، التي احتُلت عام 1948، وصارت المفاوضات تجري على الأراضي الجديدة. بخصوص سورية، هذا يعني أن إسرائيل لن تنسحب إلى حدود 8 ديسمبر 2024 قبل إقرار دمشق بسيادتها على حدود 5 حزيران/ يونيو 1967. … هل تدرك السلطة السورية الجديدة ذلك، وهل هي مستعدة لقبوله؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي ينبغي الوقوف عنده في كل الحديث الجاري عن التطبيع ومتعلّقاته.