منذ الإعلان عن تشكيلها قبل أشهر، تواصل الحكومة السورية والرئيس أحمد الشرع، تحركات مكثفة وفي اتجاهات متعددة من أجل إعادة التموضع إقليمياً ودولياً، عبر طرح ما سمته، بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد مطلع كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بسياسات التوازنات والحفاظ على علاقات مع الإقليم والعالم مبنية على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، بعيداً عن الخوض في صراعات وحروب تعمق الأزمات بالمنطقة، وسط تعقيدات كبيرة تشهدها سوريا في أعقاب أكثر من 14 عاماً من الصراع.
وتعمل السلطات السورية الجديدة على إعادة تشكيل علاقاتها مع الجوار والعالم، ضمن مخاض صعب خلفته سنوات الحرب الطويلة، في ظل الدمار الكبير الذي تشهده البلاد والتدهور الاقتصادي وانعدام البنى التحتية الأساسية، والتحديات الأمنية المستمرة، وتأخر دوران عجلة التنمية والاقتصاد رغم إعلان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول غربية عديدة رفع العقوبات عن البلاد، وبالتالي تأخر عمليات إعادة الإعمار، إلى جانب التنافس الإقليمي والدولي بشأن محاولة البحث عن موطئ قدم وإيجاد بوابة للنفوذ في بلد يبدأ مرحلة جديدة من إعادة رسم شكل الدولة وعلاقاتها.
وفي حوار خاص مع الدكتور صلاح قيراطة، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في مدريد أجاب فيه على مجموعة من الأسئلة لـ”963+”، بينها ما يتعلق بالسياسة الخارجية لسوريا ورسم العلاقة الجديدة مع دول المنطقة والعالم.
وفيما يلي الحوار كاملاً:
كيف تنظر إلى السياسة الخارجية الحالية لسوريا؟
منذ تولّي أحمد الشرع قيادة سوريا في أعقاب التغيير السياسي الكبير الذي أطاح بنظام بشار الأسد، تشهد السياسة الخارجية السورية حراكًا لافتًا في اتجاه إعادة التموضع إقليميًا ودوليًا. وتحت عنوان “استعادة السيادة والانفتاح المتوازن”، تتحرك دمشق الجديدة بهدوء عبر قنوات إقليمية ودولية لرسم معالم دورها المقبل، بما يشمل العلاقة المعقدة مع إسرائيل.
مع الحديث عن إمكانية التطبيع بين دمشق وتل أبيب، هل العلاقة السورية – الإسرائيلية ستختلف خلال الفترة المقبلة وكيف ستكون؟
رغم أن فكرة التطبيع مع تل أبيب لا تزال محل انقسام حاد في الشارع السوري، فإن مؤشرات عدة توحي بأن القيادة الجديدة تتعامل مع هذا الملف بعقلانية براغماتية أكثر منها أيديولوجية. فقد تحدّثت مصادر دبلوماسية عن اتصالات غير مباشرة، عبر وسطاء خليجيين ودوليين، بهدف خفض التصعيد في الجنوب السوري وتثبيت الالتزامات السابقة بموجب اتفاق فك الاشتباك لعام ١٩٧٤ لكن في المقابل، لا تظهر حتى الآن بوادر لخطوات سياسية علنية نحو تطبيع شامل. الخطاب الرسمي السوري ما زال يؤكد أن أي مسار تفاوضي أو تطبيعي مشروط بانسحاب إسرائيل من الجولان المحتل، واحترام السيادة السورية الكاملة على أراضيها، ووقف جميع الاعتداءات الجوية والعسكرية.
أمام هذه المعادلة، من المبكر الجزم بحدوث انعطافة حاسمة في العلاقة بين دمشق وتل أبيب، لكن ما يمكن رصده هو أن سوريا الجديدة باتت تنظر إلى هذا الملف من زاوية الأمن الإقليمي والاستقرار الداخلي، لا من زاوية الاصطفافات العقائدية السابقة. وهذا بحد ذاته تحوّل سياسي لافت، قد يرسم معالم مرحلة أكثر واقعية في السياسة السورية.
وفي ضوء هذا الاتجاه، تبدو العلاقة السورية–الإسرائيلية مرشحة لـ”تطبيع صامت”، يبدأ من التنسيق الأمني عبر الوسطاء، وقد يتدرّج لاحقًا نحو مسار سياسي، إن توفرت شروط واضحة تحفظ المصالح السورية وتراعي الإرث الشعبي والوطني للصراع العربي–الإسرائيلي.
أين سوريا في العلاقة مع دول الجوار بينها تركيا والعراق والدول العربية بشكل عام؟
يمكن القول إن سوريا الجديدة، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تعيد ترتيب موقعها في محيطها الإقليمي بعد سنوات من العزلة والقطيعة التي خلّفها حكم نظام الأسد، فعلاقات دمشق مع دول الجوار تشهد تحوّلًا ملموسًا، قائمًا على منطق السيادة المتبادلة، والمصالح المشتركة، والانفتاح المشروط.
مع تركيا، حصل تطور نوعي غير مسبوق منذ أكثر من عقد، فقد تم استئناف العلاقات الديبلوماسية رسمياً منذ أواخر عام ٢٠٢٤ وبدأت لقاءات رفيعة المستوى بين الرئيس أحمد الشرع والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تُوجت بتفاهمات أمنية واقتصادية. وعبرت تركيا عن دعمها لاستقرار سوريا الجديدة، وتم التوافق على خارطة طريق أمنية تضمن ضبط الحدود، مكافحة الإرهاب، والحد من نفوذ الفصائل المتطرفة، وفي المقابل، طالبت دمشق بانسحاب تدريجي من مناطق الوجود التركي شمال سوريا، في إطار تفاهم يراعي التوازنات الميدانية والواقعية.
أما العلاقة مع العراق، فهي في مسار تصاعدي، خاصة من ناحية التنسيق الأمني لضبط الحدود الشرقية، ومحاربة بقايا تنظيم “داعش”، والحكومة السورية تنظر إلى بغداد كشريك طبيعي في إعادة تفعيل حركة الترانزيت والتكامل الاقتصادي، وقد بدأت مشاورات مشتركة لإعادة تشغيل المعابر وتنشيط التجارة.
على المستوى العربي، استعادت سوريا عضويتها النشطة في الجامعة العربية، وشاركت في قمم رسمية بدعوات من دول الخليج، خاصة السعودية والإمارات، وهناك توجه خليجي واضح نحو دعم الاستقرار في سوريا ليس فقط سياسياً، بل عبر خطط استثمارية أولية في البنية التحتية والطاقة، خصوصاً بعد تغيير القيادة وانتهاء حقبة النظام السابق.
هل يعود المثلث السوري – المصري – السعودي في شكله الجديد؟
عودة التحالف الثلاثي بين سوريا ومصر والسعودية ليست مجرد رغبة سياسية، بل تعد تطوراً استراتيجياً هاماً في مسار إعادة ترتيب خارطة الشرق الأوسط بعد فترة طويلة من التوتر والانقسام. وفي عهد أحمد الشرع، اتجهت دمشق نحو استعادة علاقاتها مع القاهرة والرياض من منطلق مصالح مشتركة في مواجهة التحديات الإقليمية مثل الإرهاب والتدخلات الأجنبية، والرغبة في تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي.
ومصر بدورها، تحت قيادة الرئيس السيسي، تعتبر سوريا شريكاً مهماً لاستراتيجية الأمن القومي العربي، وتحرص على تطوير التنسيق السياسي والعسكري، خصوصاً في ملف سوريا كجسر اتصال حيوي بين الخليج والبحر المتوسط.
السعودية، بعد إعادة تقييم سياساتها الإقليمية، أبدت انفتاحاً ملموساً على سوريا الجديدة، وبدأت خطوات عملية لإعادة فتح القنوات الدبلوماسية والتجارية، مع التركيز على دعم جهود إعادة الإعمار ومكافحة الإرهاب.
إذا عاد هذا المثلث إلى الحياة بشكل رسمي وفعال، فسيعتمد على:
– تنسيق أمني عميق، يستهدف ضبط الحدود، تبادل المعلومات، ومواجهة الجماعات المتطرفة.
– تعاون اقتصادي متزايد، يشمل مشاريع إعادة الإعمار، الربط الطاقي، والتجارة الحرة.
– توافق سياسي إقليمي، يعزز من الدور العربي في مواجهة النفوذ الإقليمي المتنافس، خاصة في ظل تنافسات إيران وتركيا.
ما الفارق بين السياسة الخارجية في عهد النظام المخلوع والحكومة الجديدة؟
شهدت السياسة الخارجية السورية في العقود الماضية تحولات حادة، إذ اتسمت في عهد النظام السابق بالعزلة والانغلاق، نتيجة التحالفات الضيقة مع دول مثل إيران وروسيا، واعتماد خطاب قائم على الصراعات الإيديولوجية والقوة. هذا النهج أدى إلى تهميش سوريا عربيًا ودوليًا، وفاقم العقوبات والضغوط عليها، مما زاد من عزلتها الإقليمية وأضعف حضورها في المشهد الدولي.
أما في عهد القيادة الجديدة برئاسة أحمد الشرع، فقد بدأ نهج أكثر انفتاحًا وواقعية، يستند إلى مبدأ تنويع الشراكات الإقليمية والدولية، خاصة مع دول الجوار كتركيا والعراق ودول الخليج. تسعى السياسة الخارجية الجديدة إلى بناء علاقات متوازنة تخدم الاستقرار الداخلي والتنمية الاقتصادية، بعيدًا عن الاستقطابات القديمة، في محاولة لإعادة دمج سوريا في محيطها العربي والدولي كفاعل سيادي يسعى لمصالحه بثقة وتوازن.
من الخاسر الأكبر في العلاقة مع سوريا ما بعد النظام المخلوع؟
مع صعود القيادة الجديدة بقيادة أحمد الشرع، أعادت سوريا رسم موقعها الإقليمي والدولي على أساس السيادة والانفتاح بدلًا من العزلة والارتهان، مما أحدث ارتدادات سلبية على أطراف خارجية كانت مرتبطة بالنظام السابق. إيران، التي بنت نفوذها في سوريا على التدخل العسكري والاصطفاف السياسي، تجد نفسها اليوم أمام قيادة تسعى لفك التبعية وتوازن العلاقات، فيما تراجع الدور الروسي تدريجيًا مع تحوّل دمشق نحو علاقات أكثر تنوعًا، خاصة في محيطها العربي.
في المقابل، خسرت الجزائر فرصة التفاعل المبكر مع سوريا الجديدة بسبب تمسكها بالنظام المخلوع، لتجد نفسها خارج المشهد الإقليمي المتغيّر. كذلك تراجعت مكانة بعض قوى المعارضة الخارجية التي ارتبطت بتحالفات مؤقتة أو أجندات خارجية، بعدما فرض الداخل السوري معادلة سياسية أكثر واقعية بعيدًا عن الخطابات الصراعية القديمة.
هل هناك أفق جديد في العلاقة بين سوريا وروسيا؟
بعد التحول السياسي في دمشق وسقوط النظام المخلوع، دخلت العلاقات السورية–الروسية مرحلة جديدة من المراجعة وإعادة التقييم. فبينما كانت موسكو في صدارة الداعمين للنظام السابق منذ العام ٢٠١٥ بغطاء عسكري وسياسي واسع، فإن سوريا الجديدة بقيادة أحمد الشرع بدأت بتفكيك نموذج الارتهان، والبحث عن شراكات متوازنة قائمة على المصالح المتبادلة لا الوصاية.
الأفق الجديد للعلاقة لا يعني القطيعة مع موسكو، بل تحول العلاقة من التبعية إلى التوازن. فموسكو التي استثمرت عسكريًا في سوريا تدرك أن استمرار حضورها يتطلب التكيف مع الواقع السوري الجديد، الذي لم يعد يقبل أن تكون سوريا ورقة ضمن صراع نفوذ دولي، بل دولة ذات سيادة تسعى لإعادة تعريف دورها الإقليمي باستقلالية.
من جهة أخرى، تسعى القيادة السورية إلى تحجيم الوجود الروسي في مفاصل القرار السياسي، مع الحفاظ على علاقات قائمة في مجالات التعاون العسكري والأمني، شرط أن لا تمس بالسيادة الوطنية أو تعرقل الانفتاح السوري على محيطه العربي والدولي.
بعد القبول والدعم الأميركي الواضح للحكومة السورية الجديدة، هل ستتحول سوريا إلى حليف قوي للولايات المتحدة في المنطقة؟
يشير القبول الأميركي المتزايد بالحكومة السورية الجديدة إلى تحول استراتيجي محتمل في العلاقة بين دمشق وواشنطن، بعد سنوات طويلة من العداء والقطيعة. إلا أن هذا الانفتاح لا يعني بالضرورة تحوّل سوريا إلى حليف تقليدي للولايات المتحدة، إذ تركز القيادة السورية الجديدة على استعادة سيادتها الكاملة ورفض الانخراط في محاور أو تبعيات خارجية، ما يجعل أي شراكة مع واشنطن مشروطة بالمصالح الوطنية لا بالاصطفاف السياسي.
من جهتها، تدرك الولايات المتحدة أهمية سوريا في إعادة تشكيل توازنات الإقليم، وترى في النظام الجديد فرصة نادرة لتقليص نفوذ إيران وروسيا من دون تدخل مباشر أو فرض حلول خارجية. ولذلك تتعامل واشنطن مع هذا التحول السوري بقدر من المرونة والواقعية، في محاولة لاستثمار اللحظة دون الإخلال بسيادة دمشق أو دفعها نحو تموضع استراتيجي حاد.