تذكِّر صورة اللواء المتقاعد فهد الشاعر (1927- 1994) المرفوعة في ساحة الكرامة، مركز احتجاجات محافظة السويداء، أهل الجبل بقصة جرح مفتوح لم يندمل، عن غدر “الضباط العلويين” برفاق السلاح من “الضباط الدروز” في شهر سبتمبر/ أيلول عام 1966، حين صُفّي وجودهم في الجيش العربي السوري بالإعتقال أو الإعدام، بدعوى التخطيط لانقلاب عسكري ضد صلاح جديد وحافظ الأسد، المنقلبين قبل أشهر قليلة على قيادتهم السياسية والحزبية والعسكرية. وكان إذلال اللواء فهد الشاعر في سجنه، واحدا من أكثر فصول هذه القصة إيلاما عند الدروز.
غرباء في وطن واحد
لم يتعرّف دروز جبل العرب، وعلويو جبال الساحل بعضهم على بعض إلا بعد جلاء القوات الفرنسية عن سوريا في 17 أبريل/ نيسان 1946، إذ عاش الجبلان خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عزلتين مختلفتين، ساهم فيهما إنهيار الحكم المركزي العثماني، وصعود شخصيات إقطاعية محلية استأثرت بحكم بعض الأقاليم، ودخول البلاد في دوامة متواصلة من الفوضى، لم تنته إلا مع دخول قوات إبراهيم باشا إلى بلاد الشام وإلحاقها بمصر عام 1832.
كانت عزلة جبل العرب محمية بأفق شرقي مفتوح على بادية الشام، وهضبة غربية تدعى اللجاة، لم يكن هنالك سبيل لاختراق أوعارها، في حين كانت عزلة جبال العلويين محاطة بغابات وأحراش وقلاع تطاول عنان السماء، لاسبيل لاختراقها إلا من الداخل. ومع وقوع البلاد تحت حكم الانتداب الفرنسي عام 1920، كرست باريس تلك العزلة بدويلات طائفية لم يكن مطلوبا منها أن تنظر أبعد من عمامات شيوخها، وحدودها المرسومة بعناية باحث أنثروبولوجي.
وحتى الثورة السورية الكبرى التي أعلنها سلطان باشا الأطرش في 1925 لم تكن جبال الساحل معنية بها بشكل أو بآخر، إذ كانت لديها ثورة من نوع آخر، يقودها الشيخ صالح العلي، مشغولة بهموم أخرى يتداخل فيها الوطني بالطائفي، ولذلك لم يُلحظ أي تواصل أو تنسيق بين الثورتين، اللَّهم إلا تحية خجولة وجهها صالح العلي لثورة سلطان الأطرش خلال اجتماع شهير ضمّه مع الزعيمين هاشم الأتاسي وشكري القوتلي وغيرهما من الشخصيات السورية في حوران بعد انطلاق الثورة بقليل.
وعندما شكلت حكومة الانتداب الفرنسي “الفيلق السوري” في “قوات المشرق” عام 1925، راعت أن يكون جنود هذا الفيلق وضباطه من أبناء الأقليات الطائفية والإثنية الموجودة في سوريا، مع استبعاد شبه كامل للعرب السنة. وقد بلغ عدد أفراد ذلك الفيلق حوالي اثني عشر ألف مقاتل انتظموا في عشر كتائب مشاة، معظم جنودها من العلويين، وأربعة أسراب من سلاح الفرسان، من الدروز والشركس والبدو، وثلاث سرايا من الهجانة، واثنين وعشرين سربا من المشاة معظمهم من الدروز، ومعهم شركس وكرد وأرمن وسريان. فكانت هذه الوحدات العسكرية منغلقة على نفسها طائفيا وإثنيا، وتتلقى أوامرها من القادة الفرنسيين مباشرة.
لجنة عسكرية
بدأ التعارف الفعلي بين الجبلين بعد الجلاء. فعند تشكيل الجيش الوطني كان لا بدّ من استيعاب بقايا “الفيلق السوري” في جيش المشرق نتيجة تسوية وطنية شهيرة لعب فيها السياسي الداهية، وزير الداخلية آنذاك صبري العسلي (1903-1976) دورا مهما، ولذلك بقي هذا الجيش لفترة من الزمن خاضعا للتقسيم الطائفي والإثني، ولكن مع ظهور “البعث”، ورواج أفكاره القومية، المتأثرة بالفاشية الإيطالية، في الجبلين، التقى الضباط العلويين والدروز للمرة الأولى تحت مظلة مشتركة، وهي اللجنة العسكرية لحزب “البعث العربي الاشتراكي”.
تأسست اللجنة العسكرية كتنظيم عسكري سرّي هدفه مقاومة الوحدة مع مصر، والإستعداد للإنقلاب عليها بسبب ما كان يراه أعضاؤها البعثيون من تهميش لدورهم، وانحرافات أصابت هذه الوحدة أدّت إلى انفضاض الجماهير عنها، ولذلك اتفق كل من المقدّم محمد عمران، وهو أرفع الضباط العلويين البعثيين رتبة في ذلك الوقت، والمقدّم الدرزي مزيد هنيدي، والمقدّم الدمشقي بشير صادق، والرائد الحموي عبد الغني عياش على تشكيل اللجنة في العام 1959. ولكن في العام التالي استُبعد هنيدي وصادق وعياش منها وأرسلوا في مهمات دبلوماسية إلى الخارج، وبقي محمد عمران من المؤسسين الأوائل، فضمّ إليها الضابط المسرّح حافظ الأسد، والرائد صلاح جديد (علويان) والرائد أحمد المير والنقيب عبد الكريم الجندي (إسماعيليان) والرائدان عثمان كنعان ومنير الجيرودي (سنيان).
توسعت هذه اللجنة أكثر من مرة، فانضم إليها ضباط إضافيون من الجبلين، ومع انقلاب عام 1963 بدا أن تقاسم النفوذ في النخبة الحاكمة الجديدة كان يراعي ذلك التقسيم المناطقي الطائفي، ولكن إلى حين. فبعد الخلافات التي دبّت بين جناحي الحزب اليساري العسكري، واليميني المدني، بتصنيفات المتصارعين، حسم العسكر المعركة بانقلاب فبراير/شباط عام 1966، والذي كرّس سيطرة صلاح جديد وحافظ الأسد على مقاليد الأمور في البلاد بعد فصل القيادة التاريخية للحزب وطردها من سوريا، وعلى رأسها المؤسسان الدمشقيان ميشيل عفلق وصلاح البيطار.
وبعد شهور قليلة، وبدعوى كشف مبكر عن محاولة انقلاب ضد “حركة 23 شباط”، صفّي الوجود الدرزي الفاعل في الجيش العربي السوري بعد اتهام اللواء فهد الشاعر بقيادة ذلك الإنقلاب، وتورّط بقية الضباط الدروز فيه، وعلى رأسهم المقدّم سليم حاطوم.
اعتقل اللواء الشاعر على الفور وزُجّ به في سجن المزة العسكري، وأخضع لأبشع عمليات التعذيب والإذلال، والتي كان يروي تفاصيلها بألم بالغ لزواره في قرية بوسان، من قبيل ركوب العسكر على ظهره والتجول بين الزنازين، وإجباره على شرب بوله، وضربه بالكابل على ظهره حتى أصيب بسلس البول الذي ظل يعاني منه بقية حياته.
كان لاعتقال هذا الضابط، المشهود له بالشجاعة والكفاءة، أثر سيء في الجبل، إذ كتب سلطان باشا الأطرش رسالة إلى القيادة القطرية لحزب البعث بقيادة صلاح جديد قال فيها: “أولادُنا في السجون مضربون، نحملكم مسؤولية النتائج، لقد اعتاد الجبل وما يزال أن يقوم بالثوراتِ لطردِ الخائن والمستعمر، ولكن شهامته تأبى عليه أن يثور ضد أخيه، ويغدر ببني قومه”.
وكتب الوزير منصور الأطرش المعتقل هو الآخر وقتها في كتابه “الجيل المدان” عن فهد الشاعر: “طالبنا أن يطلق سراح كل العسكريين الموجودين في السجن بسبب سياسي، وعلى الأخص كبار الضباط أمثال فهد الشاعر. إلا أنَ القيادة أغفلت طلبنا، وعلمنا فيما بعد أن اللواء فهد الشاعر كان قد طلب (عام 1967) أن يذهب إلى الجبهة جنديا مقاتلا ليقوم بواجبه القومي، إلا أن القيادة سخرت من طلبه وأجابته أنه عندما لا يبقى في الجبهة جندي واحد واقف على قدميه، عندها ستفكر القيادة فيما إذا كان فهد الشاعر يصلح لهذه المهمة”.
الإنقلاب المتهور
أثارت أخبار الإعتقالات والتسريح ضجة كبرى في محافظة السويداء، وعمتها حالة الغضب، فأسرع صلاح جديد بالسفر إليها مصطحبا رئيس الدولة نور الدين الأتاسي، ووجدها المقدّم سليم حاطوم فرصة للقبض على القيادة وتنفيذ إنقلاب عسكري ضدها. وبينما كان جديد والأتاسي مجتمعين مع شخصيات مهمة في الجبل، دخل عليهم سليم حاطوم وبيده رشاش اعتقل به صلاح جديد ومن معه، وأعلن سيطرته على المحافظة بعد انضمام رئيس فرع المخابرات العسكرية بالسويداء له، وإلقائه القبض على الضباط العلويين هناك.
ولكن حافظ الأسد، فور سماعه بالخبر، وبعد مكالمة عاصفة بينه وبين حاطوم، طالب فيها الأخير باعتقال جماعة جديد وإعادة القيادي المنحدر من الجبل حمود الشوفي إلى القيادة القطرية، أرسل طائرات سلاح الجو لتحوم في سماء السويداء، وعندها شعر حاطوم بالخطر فتوجه إلى الأردن برفقة عشرين ضابطا كانوا معه، وأعلن من هناك حربا إعلامية ضد النظام، أوقفها مع اندلاع حرب السادس من يونيو/ حزيران 1967، وأعلن عن عودته إلى البلاد للمشاركة في المعركة.
حتى الثورة السورية الكبرى التي أعلنها سلطان باشا الأطرش في 1925 لم تكن جبال الساحل معنية بها بشكل أو بآخر، إذ كانت لديها ثورة من نوع آخر، يقودها الشيخ صالح العلي، مشغولة بهموم أخرى يتداخل فيها الوطني بالطائفي
وبكل تهور دخل مع رفاقه من المعبر الحدودي معتقدا أن ظروف المعركة ستقلب صفحة الماضي، غير أن جديد والأسد لم يغفرا له خطأه، فأودعاه السجن، حيث خضع لتعذيب وحشي على يد عبد الكريم الجندي شخصيا، أعقبه إعدامه بالرصاص بوصفه جنديا خائنا.
شك وريبة
بعد هزيمة عام 1967 حكمت محكمة عسكرية برئاسة المقدّم حينها مصطفى طلاس (1932 – 2017) على اللواء فهد الشاعر بالإعدام، ولكن الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان يعرف الشاعر ضابطا وحدويا كان في عداد الوفد العسكري الذي سافر إليه عام 1958، ضغط على صلاح جديد حتى أطلق سراحه، فعاش منذ ذلك الحين في قريته الوادعة بوسان في جبل العرب حتى توفي عام 1994 وهو يعاني من تبعات اعتقاله وتعذيبه.
ومنذ ذلك التاريخ، اتسمت العلاقة بين الجبلين بالكثير من الشك والريبة والتخوين، إذ سعى النظام إلى تجريد الدروز في السويداء من جميع مصادر القوة، وتعمّد إذلالهم بتسليط المحافظين ورؤساء الأجهزة الأمنية والمتنفذين فيها على الناس، فكانوا يُهينون علنا كل من يبدر منه صوت معارض.
وتقع بين الفينة والأخرى حادثة تعيد إلى الأذهان تلك الحساسية العميقة بين الجبلين، منها غضبة السويداء بعد عرض مسلسل “إخوة التراب” عام 1996، والذي رأى فيه الكثيرون من أبناء الجبل إغفالا متعمدا لدور سلطان باشا الأطرش في الثورة السورية الكبرى، مقابل إبراز دور صالح العلي قائد ثورة الساحل، بحسب مقال شهير للمخرج المسرحي ممدوح الأطرش، الأمر الذي نفاه الكاتب حسن م. يوسف بشدّة يومها.
المتغير الجديد في انتفاضة السويداء 2023 هو انحياز مشيخة العقل إلى المحتجين، ووقوفها في صفهم، مما يكسب هذه الانتفاضة قوة إضافية ليس من السهل التنبؤ بنهايتها القريبة.
ولا يوفر أبناء الجبل مناسبة للتذكير بتغييب متعمّد لاسم ضابط المغاوير العميد نواف العاقل بطل معركة تحرير مرصد جبل الشيخ عام 1973 ورافع العلم السوري عليه، ونسبة المعركة لرفعت الأسد ورجاله. وأتت حادثة الشجار بين البدو والدروز عام 2001 لتقصم ظهر البعير، إذ اتهمت استخبارات النظام بالإنحياز لصالح البدو وتعمدها قتل وجرج العشرات من أبناء الطائفة، وحصار السويداء بالمدرعات مدة أحد عشر يوما مهدّدة بسحق المدينة.
انحياز غير مفهوم
مع إندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار 2011 لم يكن مفهوما من جانب كثيرين إنحياز محافظة السويداء للنظام، إذ لم تواكب نخبها الدينية والإجتماعية الفاعلة جيل الشباب المتحمّس للثورة، فانتهت احتجاجاتهم الخجولة التي اندلعت في أكثر من مكان في الجبل، لتحلّ محلها أنشطة “تشبيحية” كانت تقوم بها ميليشيات تحت مسمّى “قوات الدفاع الوطني”، هدفها الدفاع عن النظام ومهاجمة المتظاهرين في درعا المجاورة. وكان لافتا يومها تلميع صورة ضابط من قوات الحرس الجمهوري ينحدر من الجبل، يدعى عصام زهر الدين (1961 – 2017)، وإظهاره كرأس حربة في قمع الإحتجاجات.
لقد ظهرت قوة مشيخة العقل في السويداء منذ الأيام الأولى للثورة السورية، فكان انحياز هذه المشيخة للنظام، هو العامل الحاسم في صمت المحافظة أو تحييدها، وتبدت هذه القوة في تشكيل الميليشيات الطائفية المدعومة بشكل رئيس من شيخ العقل نايف جربوع، ولكن المتغير الجديد في انتفاضة السويداء 2023 هو انحياز مشيخة العقل إلى المحتجين، ووقوفها في صفهم، مما يكسب هذه الانتفاضة قوة إضافية ليس من السهل التنبؤ بنهايتها القريبة.