محمود درويش الشاب عندما كان في فلسطين (متحف درويش)

سوف تظل ثنائية “الطبع والصنعة” الشعريتين من التي تحكم رؤيتنا للشعر القديم والحديث. وهي ثنائية قديمة، فهناك من عرفوا بـ “عبيد الشعر”، من أمثال زهير بن أبي سلمى والحطيئة وغيرهما. كما أطلق عليهم شعراء الحوليات، وذلك لأنهم كانوا ينقحون قصائدهم حولاً، أي عاماً كاملاً قبل إذاعتها على الناس. فأين نضع شعر محمود درويش في هذه الثنائية؟ للإجابة على هذا السؤال يورد الناقد حسين حمزة في كتابه “هندسة البدايات في شعر محمود درويش – متبوعاً بـ: من يملك القصيدة؟ القصائد المحذوفة من سنوات حيفا” (دار راية للنشر) قول درويش: “أكتب سطراً أولاً ثم تتدفق القصيدة، وهكذا أكتبها”. وهو ما يعني أن درويش يسعى – فقط لاقتناص “السطر” الشعري الأول، ثم تنفتح طاقته الشعرية لتتدفق القصيدة. وهذا يقربه من شعراء الطبع أو التوسط بين الطبع والصنعة كما عند خليل حاوي الذي صور حالة الإبداع بأنها “نصف من الجنات يسقط في السلال/ يأتي بلا جهد حلال/ نصف من العرق الصبيب”، ورؤية صلاح عبد الصبور في قصيدته الذائعة “رحلة في الليل”

إخفاء المسودات

حاول الكثير من أصدقاء درويش النقاد الاطلاع على “مسودات ” قصائده، لكنه كان يرفض بحجة أنه كان يتلفها، “لأن هناك فضائح وأسراراً، فما من علاقة بتاتاً بين النص الأول والنص الأخير في أحيان. ولعل تغيير سطر شعري قد يغير كل بناء القصيدة، فيخضع بناؤها لمحاولة ترميم وبناء جديدين”. وعلى رغم هذه الصعوبة حاول حسين حمزة تناول نماذج عدة من شعر درويش التي أجرى عليها تعديلات سواء بالحذف أو الإضافة أو إعادة ترتيب، منحياً مسألة المسودات المخطوطة ومعتمداً فحسب على النصوص المنشورة في مجلة “الجديد”، وخصوصاً في المرحلة الأولى من شعره والممتدة من 1960 إلى 1970. وهذا يعني أن ناقدنا تعامل مع النص المنشور في مجلة “الجديد” بوصفه مسودة أولى للنص النهائي الناجز في المجموعات الشعرية، وذلك بغرض الإجابة على هذا السؤال الرئيسي – الذي أعتقد أنه غاية الكتاب – وهو: “ماذا أضاف هذا التغيير للنص الشعري؟ وهل كانت هذه التغييرات لسبب جمالي فقط أم أنها في بعض الأحيان تخضع لاعتبارات سياسية من جهة أو تتعلق بتواصل الشاعر مع جمهور المتلقين من جهة أخرى؟ وهكذا تبدو المقاربة أقرب إلى دراسة في الأدب المقارن، حين يوازن بين النشر الأول للنص والنشر الأخير له، منتصراً – غالباً- للنص الأخير، ونادراً للنص الأول.

قوبل ديوان “آخر الليل” بفتور شديد، حتى أن كثيراً من أصدقاء درويش قالوا له: “يا محمود عد إلى الوراء، إذا كان هذا هو التقدم الفني، فليتك لم تتقدم”. وعندما سئل درويش هذا السؤال: هل تتخلص من قصائد لا ترضى عنها؟ قال: “نعم، فديوان “لماذا تركت الحصان وحيداً؟” مثلاً، كان نحو ستين قصيدة لكني تخلصت من نصفه تقريباً”. إن درويش يمتلك – كما يقال – شجاعة الحذف والتعديل والإضافة، وقد يقع هذا في عنوان النص أو المفردات أو الأسطر أو حتى المقاطع. ففي قصيدة “بطاقة هوية” من ديوان “أوراق الزيتون”، يقول في الصياغة الأولى: “يعلمني شموخ النفس/ قبل قراءة الكتب”. لكنه يبدلها في الصياغة الأخيرة بقوله “يعلمني شموخ الشمس/ قبل قراءة الكتب”. ومن الواضح أن التعديل – هنا – في مصلحة القصيدة، فنسبة الشموخ إلى الشمس أكثر شمولاً من نسبتها إلى “النفس”.

لكن الناقد لا يقر ما قام به من تعديل في قوله: “سجل أنا عربي/ ولون الشعر قمحي/ ولون العين قمحي”، حين يبدل “قمحي” بـ “بني”: “ولون العين بني”. فناقدنا يرى اتساع دلالات “قمحي”، حيث يدل القمح على الخير وعطاء الله وزخم الطبيعة بالحياة. ثم يقول – في الصياغة في مجلة “الجديد”: “وعنواني: أنا من قرية عزلاء منسية/ شوارعها بلا أسماء/ وكل رجالها في الحقل والمحجر/ يحبون الشيوعية/ فهل تغضب”. وفي الصياغة الأخيرة يحذف كلمة “عنواني” للإيجاز والتكثيف، كما يحذف عبارة “يحبون الشيوعية” التي كتبها في سنوات انتمائه إلى الحزب الإسرائيلي الشيوعي. لكنه بعد هجرته خارج الأرض المحتلة وإقامته في مصر غيّر هذا الانتماء وشايَع “القومية العربية”؛ تأثراً بالمشروع الناصري. ولهذا حذف تلك العبارة؛ لأنها لم تكن معبرة عن هذا الانتماء الجديد. والتعديل – هنا – لا يصب في خانة الجمالي بل يتم بوازع أيديولوجي.

وفي قصيدة “أغنيتان عن الصمود” يجعلها – فحسب – “عن الصمود” التماساً للعمومية والشمول. وفي القصيدة نفسها يغير عبارة “بالقدم المسمر”، ويجعلها “بالصدر المسمر” في قوله – في النشر الأول – “فاحموا سنابلكم من الإعصار/ بالقدم المسمر”. وذلك لأن الصدر هو موضع المواجهة. كما يغير قوله “وحولنا الأشجار لا تسرب الأخبار”، إلى “وحولنا الأشجار لا تهرب الأخبار”. وقد أفاد هذا التغيير التعريض بما يفعله بعض البشر الخائنين.

 

وفي قصيدة “رسالة من المنفى، من منفي إلى أمه”، يقول: “تحية وقبلة في الخد/ وليس عندي ما أقول بعد/ من أين أبتدي / وأين أنتهي”، حيث حذف مفردة “الخد” للتخلص من تواتر القافية إضافة إلى أنها معروفة بالضرورة لبديهيتها. ويستمر هذا التعديل في قوله “أقول للعصفور… إن هاجرت عندها يا طير”، فيجعله “أقول للعصفور… إن صادفتها يا طير”، وهو أكثر إيجازاً بالفعل. وهو نفس ما يتبعه في قوله: “وقال صاحبي/ هل عندكم رغيف؟/ أحس أني جائع/ هل عندكم رغيف”، فيحذف السطرين الأخيرين تخلصاً من الحشو. لكنني لا أقر حسين حمزة على ذلك، فالسطران الأخيران ليسا حشواً؛ لأن التكرار يدل على شدة الجوع والرغبة الملحة في الحصول على الخبز.

وفي قصيدة “للحقيقة وجهان والثلج أسود” من مجموعة “أحد عشر كوكباً”، يقول: “من سينزل أعلامنا… نحن أم هم؟ ومن سوف يتلو علينا معاهدة الصلح يا ملك الاحتضار”، فيقوم بتغييرها إلى “معاهدة اليأس”. وأحياناً يكون التغيير تفاعلاً مع جمهور المتلقين وإشباع أفق التوقع. ويظهر ذلك في قوله في قصيدة “مديح الظل العالي”: “الله أكبر/ هذه آياتنا فاقرأ/ باسم الفدائي الذي خلق/ من جرحه أفقا”. ومن الواضح أن هذه السطور تتناص مع قوله تعالى “اقرأ باسم ربك الذي خلق”. وفي قصيدة “سأقطع هذا الطريق” من ديوان “ورد أقل” يقول: “تضيق بنا الأرض أو لا تضيق/ سنقطع هذا الطريق الطويل/ إلى آخر القوس/ فلتتوتر خطانا سهاماً/ أكنا هنا منذ وقت قليل… سأقطع هذا الطريق الطويل إلى آخري أو إلى آخره”، في نهايتها التي أضافها تجاوباً مع الجمهور يقول: “وأرمي كثيراً من الورد في النهر/ قبل الوصول إلى وردة في الجليل”.

كل ذلك بهدف توصيل رسالة القصيدة بشكل مباشر. وهو نفس الغرض الذي يتبعه في قصيدة “كحادثة غامضة” حين يقول: “سيرجع أوديسكم سالماً/ سوف يرجع”، فيضيف إليها “آه يا فلسطين/ يا اسم ترابي/ ويا اسم السماء ستنتصرين”. إن كل ما سبق يفضي بنا إلى طرح السؤال الثاني الذي أثبته المؤلف وهو “من يملك القصيدة؟”. والحقيقة أنه سؤال مجازي؛ لأن من البداهة أن نقول إن الشاعر هو من يملكها. لكن دخول القارئ طرفاً في التأويل يجعل القصيدة متعددة بقدر تعدد القراء. ويظل من حق الشاعر – أيضاً – أن يهذب ويشذب شعره. وهو ما يؤمن به درويش ومارسه بالفعل على نحو ما أوضح ناقدنا. وفي النهاية يثبت حسين حمزة القصائد المحذوفة من سنوات حيفا وهي خمس عشرة قصيدة، نذكر منها: “الشهيد، أختاه، رسالة، الشريد، جاءت لتحضن الجراح قصيدتي”.