بعدما حُسمت شؤون الحكم كلها في العراق لمصلحة الأحزاب السياسية الموالية لإيران، ألا تجد تلك الأحزاب في بقاء الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني تهديداً لقدرتها على ضبط المسار بما يخدم حالة الاستقرار التي تدعم بقاء النظام السياسي متماسكاً؟
في أوقات سابقة كانت الفوضى وسيلة لتمرير الكثير من صفقات الفساد، في ظل شعور بأن هناك ما يمكن أن يحدث بطريقة مفاجئة ليقلب الطاولة على الجميع، وكانت الاحتجاجات التي شهدتها المدن العراقية في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 جرس إنذار شديد الوقع وليست مجرد عنوان لحراك سياسي شعبي موقت. أما وقد أمسكت الأحزاب الموالية لإيران بكل خيوط اللعبة السياسية، فقد صار وجود قوة مسلحة ضاربة كالحشد الشعبي تعتاش على الدولة من غير أن تكون فعلياً تحت سيطرتها يشكل خطراً داهماً يمكن أن ينقلب على الدولة الهشة في أي لحظة وينهي شعور النظام السياسي بالاستقرار، وهو ما ليس في الإمكان توقع مديات تأثيره على العملية السياسية برمّتها، وهي عملية لا تزال في طور التلصيق ولم تُبن على أساس توافقات حزبية ثابتة بل هي أشبه بمزاد، خرج منه الخاسرون منتصرين، من غير أن يكلف المنتصرون أنفسهم عناء البحث عن أسباب مقنعة لانسحابهم. كل الوقائع تؤكد أن انسحاب التيار الصدري من العملية السياسية لم يتح لخصومه السياسيين فرصة الهيمنة على الدولة إلا صورياً. هناك قوة أخرى استغلت ذلك التحول ونجحت في بسط نفوذها السياسي في مناطق مختلفة من العراق. الحشد الشعبي هو تلك القوة.
وجه عسكري بقناع مدني شفاف
إن تداخل السياسي بالعقائدي في حالة النفوذ المطلق الذي تتمتع به الأحزاب الدينية في العراق يسمح بتكريس وجود الميليشيات في مقابل إضعاف الدولة ومؤسستها العسكرية. فلا أحد في إمكانه أن يتوقع تجاور أو توازي المسارين وفي الوقت نفسه لا نية مبيتة لإخضاع العقائدي لبرنامج سياسي. الأكثر احتمالاً وقبولاً هو أن تعلو العقيدة (المذهب) فوق كل شيء. وما من أحد يحمي العقيدة مثل الحشد الشعبي بسلاحه المشرع ضد الجميع، بمن فيهم أدعياء النزاهة من أجل بناء دولة تحميهم. ما بين دولة المؤسسات والدولة العقائدية (الطائفية) هناك هوة لا يمكن تجسيرها. مظهرياً نجح زعماء الميليشيات في فرض أنفسهم على العملية السياسية باعتبارهم نواباً ووزراء ومستشارين ومحافظين، غير أن ذلك الانتقال لم يكن سوى تغيير طفيف في العناوين من غير أن يؤثر في الجوهر. وإذا ما عدنا إلى الماضي القريب فإن الوزارات التي سبق للتيار الصدري أن أدارها وهيمن على مقدراتها الاقتصادية كانت أشبه بالثكنات العسكرية المموهة. وجه عسكري بقناع مدني شفاف. ولو تفحصنا التركيبة الوزارية التي يقودها محمد شياع السوداني لوضعنا أيدينا على حجم الاختراقات التي تعرضت لها تلك التركيببة من قبل الميليشيات التي لم تراع في اختيار ممثليها للمناصب الحكومية التي هي من حصتها المستوى الأدنى من الكفاءة والخبرة، بحيث شملت فضيحة الشهادات المزوّرة عدداً كبيراً من الوزراء والمديرين العامين.
الحرب الأهلية النائمة
لا يكفي أن يعلن زعيم تحالف الإطار التنسيقي نوري المالكي تبنيه نهج المقاومة الإسلامية لوضع الميليشيات تحت السيطرة. ولا يمكن النظر إلى إشارات رئيس الحكومة إلى إمكان ضبط حركة الميليشيات باعتبارها منطلقاً حقيقياً لوضع تلك الميليشيات تحت السيطرة الحكومية انسجاماً مع القانون الذي يعتبرها جزءاً من القوات المسلحة التي تأتمر بأوامر قائدها العام الذي هو رئيس الحكومة. فالميليشيات التي تم جمعها في إطار موحد هو الحشد الشعبي إثر ظهور تنظيم “داعش” عام 2014 هي ليست في حقيقتها إلا تنظيمات مسلحة لا يجمع بينها رابط سوى ارتباطها بالحرس الثوري الإيراني، ومن الصعب تشبيهها بـ”حزب الله” في لبنان أو بجماعة الحوثي في اليمن، كما أنها لا تخضع لسيطرة الدولة كما هي حال الحرس الثوري في إيران. لذلك فإن صدامها بالدولة لا يعد أمراً مستغرباً، كما أن المعارك التي تنشب بين اثنتين من الميليشيات وإن اتخذت طابعاً عشائرياً إنما هي تعبير طبيعي عن الطابع المستقل لكل ميليشيا، وبخاصة على مستوى المصالح الاقتصادية. لقد حاول النظام السياسي احتواء الميليشيات من خلال استرضاء زعمائها على حساب الدولة، ولكنها محاولة أضرت بالعملية السياسية حين غلفتها بطابع طائفي أكثر انغلاقاً. فإذا كان الحزبيون قد تعلموا عبر العشرين سنة الماضية شيئاً من الحوار السياسي الطائفي، فإن “نبوءة الحرب الأهلية” لا تزال تشكل مبتدأ ممثلي الميليشيات في محاولتهم الوصول إلى خبر دولتهم.
الميليشيات تفعل ما تشاء
حين أقيل رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، بضغط من احتجاجات 2019، كانت دولة الحشد الشعبي على وشك الإعلان عن ظهورها. لم يقع ذلك التزامن صدفة. كان تغول الميليشيات في الشارع وفي مفاصل الدولة قد أدى إلى تعاظم الشعور الشعبي بأن مؤسسة الحشد لشعبي تستعد لقطف ثمار حالة الاستقرار النسبي غير المسبوقة بعد هزيمة تنظيم “داعش”، والتي تم تسويقها باعتبارها منجزاً حشدياً تستحق الميليشيات مكافأة عليه. ولم تكن تلك المكافأة بأقل من الدولة. لم تكن حكومة عبد المهدي ضعيفة في مواجهة تلك القناعة بقدر ما كانت تميل إلى تكريسها باعتبارها حلاً طبيعياً لإنهاء حالة التشتت التي تعانيها الأحزاب الشيعية. كانت نبوءة الانقلاب الحشدي تمثل في جزء منها محاولة لجس النبض الشعبي في ما يتعلق بهوية النظام السياسي في ظل تجاذب طائفي كان قد شكل عقدة في طريق الهيمنة الإيرانية الكاملة. قلبت الاحتجاحات الميزان فتم طي صفحة تلك المحاولة الانقلابية، غير أن النظام السياسي وإن نجح في تصفية كل خلافاته الداخلية متمسكاً بهويته العقائدية، فإنه لا يزال غير قادر على ترويض الميليشيات أو على الأقل إبقائها داخل حيز غير قابل للتوسع. فهي تفعل ما تشاء في المكان والزمان المناسبين لها. ذلك ما يزعزع ثقة النظام بنفسه وبقدرته على أن يطور حالة الاستقرار التي هي فرصته الذهبية لإلحاق هزيمة نهائية بمعارضيه.