نحن في القسم الثاني من التسعينيات. مرحلة تشهد فيها إسرائيل عمليات انتحارية يقوم بها شباب فلسطينيون، في القدس خصوصًا. بطلنا هو الراوي. لا اسم له. مواطن إسرائيلي “طبيعي” كان في شبابه الأول عضوًا في حركة “السلام الآن”، التي تطالب بحل يقوم على دولتين. ولكنه عندما “نضج” وأسَّس عائلة، اختار مهنة مخابرتية في “الشين بيت” (جهاز الأمن العام الإسرائيلي- المخابرات).
مهمته في هذه الفترة استباق العمليات الانتحارية عبر اعتقال أقرباء المشتبه بهم، واستنطاقهم في إحدى غرف مقر الشين بيت، تحت الأرض في القدس. وهو يعتقد بأن “أخلاقياته” التي اكتسبها عن طريق عمله في حركة “السلام الآن”، ستردعه عن مخالفة “القواعد” التي أرستها قيادة الجيش والمخابرات، بعدم المسّ بأي معتقل؛ أي بعدم “تعذيبه”. لكنه شيئًا فشيئًا يتخلّى عن كياسته الأولى، ويتحول إلى مستجوِب عنيف، فاقدًا تقديره لنفسه وثقته بها.
وهو في هذه الحالة من التشوّش النفسي، يرتكب عدة “مخالفات مسلكية”، يغضب من أحد المستجوَبين، يكاد يجنّ، يصرخ ويهدد، ويقوم بحركة تعذيب وتعنيف تقضي على حياة ضحيته. وكإجراء مسلكي على هذه المخالفة لنظام السجون الداخلي، يُحال إلى المعالج النفسي الخاص بعملاء الشين بيت. يقول له، محاولًا تبرير سلوكه: إنهم، أي المعتقلين المكلَّف باستجوابهم “لا يحرّكون دماغهم، ولا نحن بالتالي نحرّك دماغنا”. يحلّل الوضع ويستنتج بأن: “الأمر لا يعدو كونه صراعًا بين مجموعتين من الغوريلات، يتضاربون بلا هوادة”. يبرّر عنفه: “نحن ملزمون باستخدام العنف. فهم (المعتقلون) لا يفهمون لطفك. إنهم يلعبون نفس لعبتنا. إنهم يكرهوننا ولكنهم يريدون أن تكون كراهيتهم نزيهة، شريفة”.
ولكن ما يقدّمه من أسباب لعنفه لا يغطي على تقديره العالي لضحاياه. بل يفسّره. فأكثر ما يغيظه هو صمتهم، تجلّدهم، ورباطة جأشهم. يقول لزميله الذي يؤنبه على خروجه عن “لياقات التحقيق”: إنهم، أي الفلسطينيين “لا يخافون”، “إنهم معجونون من مادة لا تنْكسر”، “حتى لو قطَّعته مئة قطعة، لن يتحول إلى خائن”.
يقارن بين معتقلَين: “الأول، ‘ذو الشعر الدهني‘، لم يكن هناك من مشكلة. وهو من النوادر تكلم فور تلقّيه ضربة مني أسقطت أسنانه. هكذا أشخاص لا أحترمهم. على كل حال بسببهم الفلسطينيون يخسرون”. ولكن المعتقل الثاني، شقيق المشتبه بأنه سيرتكب عملية انتحارية، الذي تكلم عنه مع المعالج النفسي، فيرى أنه رجل قوي: “لا يهتم إن مات أو عاش. لن يخون. يعرف كيف يكسب الوقت، كيف يصمد أكثر، ولا يتكلم… حتى يتمكن أخوه الأصغر من تنفيذ العملية. كأنه اتخذ قرارًا بأن يموت هو أيضًا مع أخيه. كنت أشعر بأن هذا الرجل قادر على الهروب بعقله نحو بعد آخر، إلى عالم حيث يخالط الله، وحيث لا يمكنني الوصول…”.
ولكن أين شاعر غزة، حامل عنوان الرواية؟
إنها مهمة أخرى، غير التحقيقات في أسفل مبنى المخابرات. مهمة فوق الأرض. المطلوب من الراوي، أيضًا، أن يتعرف على أديبة أربعينية، اسمها دَفْنا، معروفة بدعمها لحركة السلام. ولها علاقة قوية مع شاعر غزاوي. أن يتقرَّب منها، بحجة أنه يريد أخذ دروس في الكتابة الأدبية. والهدف البعيد من الخطة، أن ينسج علاقة وطيدة معها. ويلبّي رغبتها بإحضار شاعر غزاوي اسمه هاني، هو في المرحلة الأخيرة من مرض السرطان. يعاني من آلام مبْرحة، ولا مسكنات له في غزة. هي تريد إحضاره إلى القدس، ليرتاح من الآلام. و”قيمة” الشاعر أن ابنه يدير شبكة تفجيرات من خارج إسرائيل، تنفذها في داخلها. وعلى راوينا أن يتعرّف على الشاعر هاني عبر دَفْنا، ويتقرّب منه، ثم يجرّه إلى موعد مع إبنه خارج إسرائيل، في ليماسول عاصمة قبرص، وهناك تغتاله المخابرات، ويكون بذلك نفّذ واحدة من مهمات استباق العمليات الانتحارية داخل إسرائيل.
هكذا، ينتقل الراوي من العنف المركّز واليومي، تحت الأرض، إلى ما فوقها، حيث يكتشف عواطف كان نسيها. الحنان الفائض الذي تعبّر عنه دَفْنا تجاه شاعرنا، يعلم الراوي بعد حين أنه غرام قديم بينهما من أيام الشباب. ورِقَّة هاني مع ابنه على الهاتف، ومفاتن دَفْنا وسحرها… فتلفحه نسائم الحياة وتتحرّك عواطفه المنْسية. ويعيش صراعًا وقلقًا، ينذران بفشل مهمته، القاضية بنصب كمين لابن هاني في قبرص بغية اغتياله.
لكن ذلك لا يمنعه من ترتيب الرحلة، التي تصرّ دَفْنا على أن تكون من بين ركابها. رحلة ليوم واحد، تكون أذرع المخابرات الإسرائيلية في قبرص على علم بكل تفاصيلها ومتأهبة لاغتيال ابن هاني. ولكن الراوي في اللحظة الأخيرة، عندما يترك هاني ودَفْنا في المقهى، ويذهب إلى ملاقاة إبن هاني، ليتعرف عليه قناص الشين بيت، يسرع إلى جرّه نحو أول سيارة تاكسي، يمسك ذراعه ويُدخله فيها، ويطلب من السائق الإبتعاد بأقصى السرعة نحو أبعد مكان… ويكون بذلك أفشل خطة مدرائه، وتسبّب لنفسه بضياع حياته المهنية بعد العائلية. ففي الأثناء تتركه زوجته مع ابنهما بعدما ضجرت من مغالاته بالإنكباب على “عمله”.
الرواية عنوانها “شاعر من غزة”. صاحبها هو الإسرائيلي يشاي سريد (1965)، ابن يوسي سريد، أحد أوائل المنادين بالدولتين، وبحل سلمي. ويشاي سريد محام. له مواقف مماثلة لمواقف أبيه. ولكنه يقول إنه لا يجد لنفسه مكانًا في “النضال السلمي”، واختار الأدب مجالًا للتعبير عن وجهة نظره.
“شاعر من غزة” صدرت مترجمة من العبرية إلى الفرنسية عام 2011.
و”شاعر من غزة” ليست “تريلر”، كما يصفها بعض النقاد. مع أنها رواية مشوِّقة ومرصوصة. لكنها رواية إنسانية، قريبة من النَفَس الدوستويفسكي، نسبة إلى الروسي فيودور دوستويفسكي، صاحب “الجريمة والعقاب”. ولكن بالمقلوب: فبطل الأديب الروسي راسكولنيكوف، هو طالب شاب، فقير ولكنه معتز بنفسه، كريم وذكي. بعد ازدياد فقره وعجزه عن تغطية مصاريفه، يقرّر قتل عجوز وسرقة أموالها، لأنها ثرية وتديّنه بفوائد عالية. وفي طريقه، يقتل أختها البريئة، بعدما شاهدت جريمته. على الأثر، تتحول حياته إلى جحيم من عذاب الضمير، حتى يبلغ به المطاف إلى الجنون.
أما بطل سريد فيألف التحقيقات والتعذيب والقتل ويعمل على تنفيذهم بأريحية… أي أنه شرير، يرتكب الذنب، وفي الأيام الأخيرة يغالي به… لكنه يقرر في إحدى إشراقات ضميره، أن يكون بريئًا، وينقذ أحد المعتقلين الموضوعين على لائحة القتل من قبل أرباب عمله… فيرتاح هذا الضمير، رغم خساراته.
كيف يكون للبريء أن يرتكب جريمة، وللقاتل أن ينقذ حياة؟ كيف تجد خيرًا ما في جهنم وشرًّا ما في الجنة؟