"حورية": قصة أخرى عن أوجاع المرأة

منية مدور (يسار) ولينا خضري في مهرجان روما السينمائي(15/10/2022/Getty)

ذهبت المخرجة الجزائرية منية مدور في فيلمها الروائي الأول “بابيشا” (108 دقائق، 2019)، صوب المواضيع التي تثير النقاش، خاصة في الغرب الذي يبحث دائمًا عما يتقاطع مع تصوره وآرائه، التي بناها حول المجتمعات العربية، لهذا نجده دائمًا ما يحتفي بالأفلام التي تنحو هذا النحو، يكرّمها ويعطيها الجوائز، حتى وإن كانت متوسطة الجودة، أو خالية من الفنية، وأكثر من هذا كله تغريبية بالنسبة إلى مجتمعاتها، وهو ما حدث بالضبط في عدد من زوايا فيلم “بابيشا”، حيث تم زرع عدد من “الكليشيهات” حول أزمة “العشرية السوداء”، وكيفية تعامل المجتمع الجزائري معها، كأفراد، أو مؤسسات، مستندة على معلومات خاطئة ومعطيات غير مدروسة وردت في السيناريو.
استحسنت المخرجة منية مدور هذا الاحتفاء والتكريم، ولهذا نسجت في فيلمها الثاني “حورية” (108 دقائق، 2022) على المنوال نفسه، أي الذهاب صوب المواضيع التي تحبها حلقات النقاش الغربية، انطلاقًا من توظيف قصص غير منطقية، ورسم شخصيات غير موجودة في الواقع، فقط الديكور والعمران والأرض جزائرية.

حلم بعيد المنال… من يقربه
تتلخص قصة الفيلم حول الشابة حورية (الممثلة لينا خضري)، التي تحب رقص الباليه وتهواه، وتحلم بأن تنضم إلى الفرقة الوطنية، لهذا تعطي كل جهدها لتحقيق هذا الحلم، وفي الوقت نفسه تعمل كموظفة في أحد الفنادق، إضافة إلى قيامها بالمراهنة على لعبة مصارعة الكباش ليلًا، في أحد الأزقة الخطرة، لجمع المال من أجل شراء سيارة، لكن في إحدى المرات يحدث ما لم تتوقعه، حيث تعرضت لاعتداء عنيف من طرف أحد الشباب من أجل المال، أثناء عودتها من المراهنة، ليتم نقلها إلى المستشفى، لأنها تعرضت لإصابة خطرة حرمتها من ممارسة هوايتها في الرقص، وأكثر من هذا ذهب صوتها، أي أصبحت بكماء، لهذا بدأت رحلة التكيف مع هذا الواقع الجديد، مع صديقتها صونيا (أميرة هيلدا)، التي سبق أن تخرجت معها في معهد التدريب الرياضي، ولأنها لم تجد من يوظفها، فقد قررت الهجرة إلى إسبانيا بطريقة غير شرعية، من أجل البحث عن عالم أفضل، لكن عالم حورية التي تعلمت لغة الإشارة بدأ ينهار، من خلال تقاعس الشرطة في القبض على المجرم الذي اعتدى عليها، خاصة وأنه يعمل كساعي بريد، ولديه سجل حافل بالإجرام، لأن أمها صبرينة (رشيدة براكني) تعمل كراقصة في الحفلات والعلب الليلية، لهذا اتخذت الشرطة موقفًا منهما، لتتعقد الأحداث أكثر، وتتجه نحو الألم والدموع.

حرية الجسد وأغلاله

لقطة من فيلم “حورية”

 

احتفت المخرجة منية مدور في فيلمها بالجسد وحرّيته، وأسقطت عنوان الفيلم واسم البطلة “حورية” ليكون معادلًا موضوعيًا لهذا المفهوم، وكأنها تقول بأن من حق المرأة أن تفعل بجسدها ما تشاء، ترقص به، تضع عليه ما تشاء من لباس، تتحرك به صوب أي اتجاه، وهذا من دون إصدار أحكام مسبقة عليها، أو محاكمتها واحتقارها لأنها امرأة في مجتمع ذكوري لا يأخذها بجدية كافية، ولا يتعامل معها إلا كشيء، أو كجزء من ديكور ما، حتى المؤسسات الرسمية لا تأخذ شكاواها بجدية، ولا توظفها في مراكزها، لهذا أصبحت الحياة مُظلمة في وجه حورية وأمها وصديقتها المقربة صونيا، إضافة إلى النساء الأخريات، اللاتي تقوم حورية بتعليمهن الرقص، بعد أن تعرفت عليهن في مركز اعادة التأهيل الجسدي والنفسي، فكل واحدة منهن تحمل في جعبتها قصة موجعة ومؤلمة، عن الموت والتعنيف والاحتقار، لهذا مرضن وتأثرن، فوجدن أنفسهن في مؤسسة رعاية.
انطلاقًا من هذا، تصبح المرأة في نظر المخرجة منية مدور، التي كتبت السيناريو أيضًا، ضحية مجتمع ذكوري، تتحالف ضدها كل الجهات، حتى تسقطها وتجعلها بلا روح.
المعطيات المذكورة والموظفة في الفيلم عميقة وموضوعية لو تمت معالجتها بطريقة ذكية، لكن سطحية المعالجة في الفيلم جعلتها غريبة عن المجتمع الجزائري، الذي سيحس تجاهها ببعد واضح، ليس لأنه مجتمع نموذجي، ولا لأن الجزائر دولة فاضلة، بل لأن بعض السياقات في الفيلم غير مواتية، وعدد من الحوارات والقصص متحاملة، مثلًا عندما ذهبت الأم لتقدم شكوى، قالت لها الشرطية بأنها لا تملك الورق في مكتبها لتدوينها، إضافة إلى أن الشرطة تعرف المجرم، ولم تتحرك لتقبض عليه. لكن الواقع الحقيقي يقول غير ذلك، والمؤسسة الأمنية لا تترك مجرمًا عنيفًا ومعتديًا، خاصة إن كانت هنالك شكوى ضده، كما أن النماذج التي اختارتها المخرجة وكاتبة السيناريو لم توفق فيها، لأن ثقافة المجتمع الجزائري تجعله غير مهتم بالرقص الكلاسيكي، والباليه على الخصوص، ولا توجد معاهد تدرسه، لهذا سيجد المتلقي، خاصة الجزائري منه، عددًا من الثغرات التي يمكن أن تسقط من خلالها صدقية الفيلم، وسيذهب تأثيره ويذوب موضوعه، وبالتالي تذهب القيمة الفكرية للفيلم بسهولة.
القالب الدرامي الذي استعملته منية مدور لبناء فيلمها تقليدي، لأن المرأة التي تهوى الرقص، وتعمل كعاملة تنظيف في الفنادق، موجودة بكثرة في عدد من الأفلام، ولهذا وجدت نفسها محاصرة بأحداث غير مبتكرة، وبمعالجة إخراجية عادية جدًا، إضافة إلى الموضوع الجديد القديم، وحتى المتحامل، وكلها معطيات أفقدت الفيلم بريقه السينمائي، رغم البريق الإعلامي الذي حظي به، كما أنها استعملت المنطلقات نفسها التي يعتمد عليها ابن بلدها المخرج مرزاق علواش، من خلال الذهاب صوب النقاط التي تعاكس المجتمع الحقيقي وتنتقده بشدة، على حساب الواقع، لابتعادها عن المجتمع الجزائري، خاصة وأنها لم تعش في الجزائر كثيرًا، إذ كبرت وتربت ودرست في فرنسا، وكل المعطيات التي تعتمد عليها لرسم أبعاد مجتمعها أخذتها من الجرائد والمنصات الفرنسية، والأخيرة تحاول دائمًا معاكسة الحقيقة، لهذا نجد هذا الكم الهائل من التناقض.
رغم الموضوع الذي لم يتم معالجته كما ينبغي، غير أن هنالك جماليات متعددة في الفيلم، أهمها التصوير الذي اتسم بأبعاد خدمت الفيلم، من بينها قنص مشاهد مهمة عن العمران في أزقة الجزائر العاصمة ودروبها، ليلًا ونهارًا، فضلًا عن الصور البانورامية التي تم الاعتماد عليها، خاصة الملتقطة منها من سطوح العمارات وفناء الشقة (خاصية تصويرية اعتمد عليها علواش كثيرًا في أفلامه)، إلى جانب الاعتماد على الصور المقربة للشخصيات، أهمها الوجوه الضاجة بالملامح المعبرة، وهو المعطى الذي أظهر الألم والحلم المكسور، والخيبة التي حاصرت شخصيات الفيلم، من بينهم الممثلة لينا خضري، التي أثبتت أنها ممثلة موهوبة، تعرف كيف تتفاعل مع شخصياتها وأدوارها وحالات الأحداث التي تجسدها، ليس في هذا الفيلم فقط، بل في أفلام أخرى فرنسية وعالمية، وحتى في فيلم “بابيشا” الذي لعبت فيه أيضًا دور البطولة.

يُذكر أن المخرجة منية مدور تحمل الجنسيتين الروسية والفرنسية، بالإضافة إلى الجزائرية، وهي ابنة المخرج الجزائري الراحل عز الدين مدور، درست الصحافة وتدربت في مجال السينما في فرنسا، وسبق لها أن أخرجت عددًا من الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة التي بدأت بها مشوارها في الإخراج، من بينها الروائي القصير الأول “إيدج” (2011)، لتتدرج بعدها حتى تخرج فيلمها الروائي الطويل الأول “بابيشا”، الذي عرض في مهرجان كان السينمائي في مسابقة “نظرة ما”، كما فاز بجائزة “سيزار” لأفضل فيلم عمل روائي أول، ورشحته الجزائر ليمثلها في مسابقة الأوسكار.023