
شهَِد العام 1968 أولى بوادر تأسيس صناعة سينمائية في ليبيا، بدفعٍ من وزير الإعلام حينها، أحمد الصالحين الهوني، وذلك بعد عقدٍ اقتصرت فيه مقدّمات هذه الصناعة على تصويرٍ دعائي لاستجلاب السيّاح، أو توثيق يوميات بعض الأفراد في ليبيا وبعض الشرائط الإرشادية. بهذا التأسيس، باتت الاستوديوهات بمُستلزماتها وكوادرها جاهزة لصناعة أفلام ليبية بأيادٍ ليبية. كان المد الناصريّ حينها يفيضُ على المشهد برُمّته، مع عجز الملك عن إدارة الدولة المُفقَرة، واقتصار شعبيته على نطاقٍ يكاد يكون محدوداً بمحيط إقليم بَرْقة (موطن الحركة السنوسية)، وعجز الديوان الملكي عن ملء الفراغ سوى بمزيدٍ من الفساد المالي. أمّا اغتراب الديوان وحكومته عن الأجهزة الأمنية والجيش، فكان قد بدأ منذ وقت سابق مع المظاهرات الطلابية عام 1964، مرورًا بأصداء الهزيمة عام 1967. وكما وُرَدَ في الوثائق السرية البريطانية، فإن أحداث 64 كانت شرارة الانقلاب، وبدأت التوقعات تُرجّحُ تَسلُّم ضباط الجيش لدفة الحكم. وعلى مستوى ثقافي، شكلت النزعة الناصرية، وإن لم تكن آنذاك هي محرك المعارضة الأساس بصفتها يساراً، التيارَ الذي احتوى النخبة الراغبة في التغيير، بما يشمل صُنّاع الأفلام الشباب.
خريجو الجامعات هنا هم أبناء المملكة الليبية، بعدما دحر الفاشست شتات الطبقة المتوسطة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. صار هتافُ «إبليس ولا إدريس» شعارَ التغيير الحاصل أخيراً في الأول من أيلول (سبتمبر)، في أحد الانقلابات العسكرية «غير الدموية» القليلة، حيث جرى الانقلاب أثناء تواجد الملك في تركيا، إحدى محطات العلاج. هكذا حصل التأييد الشعبي العارم للثورة دون معرفة هوية الثائر (عدا كونه/هم ناصريًا/يين).
بعد انقلاب 1969 وإنشاء المؤسسة العامة للخيالة الليبية بعد ذلك بأعوام، «اندثر الحلم الذي نما بالتوازي مع قدوم الكاميرات ومعامل التحميض»، كما يُخبرني المخرج السينمائي عبد الله الزرّوق؛ بسبب تشديد الرقابة والحد من حرية التعبير، إذ كان التوجُّه المهيمن في كتابة السيناريو يدور حول بروباغاندا إنجازات القذافي و«ثورة الفاتح»، تحديداً بعد إنشاء الشركة العامة للخيالة في 1973، التي هيمنت على العروض فضلًا عن الإنتاج، وعلى استيراد وتوزيع وتسويق الأشرطة.
لم تنتهِ حرب 1977 الصغيرة مع مصر دون عواقب على المشهد الثقافي. هكذا شهدت الثمانينيات موجة تراجُع، عندما مُنِعَت الثقافة المصرية ومنتجاتها من الدخول إلى البلاد، بالتزامن مع اندثار مُوزِّعي الصالات الخاصة ممن استَورَدوا سلفاً إنتاجات السينما العالمية.
من هنا، تَوجَّه المُشاهدُ إلى التلفزيون الأردني، وتَوجَّه صانع الأفلام إلى إنتاج «السهرات» التلفزيونية. هذه الأخيرة هي عبارة عن أفلام تلفزيونية صنعها سينمائيون وجدوا أنفسهم مُجبَرين على ترجمة نصوصهم إلى التلفزيون، كما يرى منصور بو شناف، الذي كان متابعاً للمشهد من خلال عمله ككاتب ومن خلال صداقاته مع صنّاع السينما. والمفارقة أنّه وعلى الرغم من تراجع الصناعة السينمائية في كافة مناحيها، من إنتاج وتوزيع وإمكانيات عرض في مرحلة الثمانينيات، تم إنتاج أضخم فيلميْن ليبيّيْن في هذه المرحلة: معركة تاقرفت (1981) والشظية (1986).
اضمحلّت إنتاجات الشركة العامة في التسعينيات وتوقّفت عن إنتاج أفلام طويلة في الألفية الجديدة، وتحوّلت بعد انتفاضة 2011 إلى الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون التي تعمل بذهنية «تكديس الموظفين»، حسبما يرى منصور بو شناف، إذ لا يوجد بين آلاف الموظفين فيها أكثر من «ثلاثة مُخرجين»، ولا توجد نيّة حقيقية لإنتاج سينما كما يرى.
يُساهم الدعم الحكومي في تعزيز الصناعة السينمائية في البلاد، حتى لو اقتصر على فيلم واحد في السنة، وهي مهمة يصعب على الأفراد العاملين في الحقل السينمائي تحقيقها بأنفسهم. بعد 2011، لم يجد المنتج السينمائي في ليبيا دُورَ عرضٍ تضمن تحقيق أرباح أو إمكانية استرداد رأس مال، أو حتى مجرد عرض فيلم لأغراض فنية وثقافية بحتة. لعلنا نجد في ابتذال عبارة «التاريخ يعيد نفسه» نظيراً ماثلاً الآن في توجُّه السينمائيين إلى التلفزيون، حيث الإنتاج الضخم والسيرورة المضمونة، نسبيّاً، لا سيّما في سوق رمضان المربح.
سينمائيون قلائل قرّروا أن يُجرّبوا ما يحمله درب الاستقلال في تنوعه واتجاهاته. عام 2014، أخرج مؤيد زابطية فيلماً قصيراً بعنوان الإمارة، وهو فيلم أكشن عن صراع الميليشيات الدائر في البلد، عُرِضَ في بعض المهرجانات ويمكن القول إنه فشل بكافة المقاييس. أما الأفلام الروائية الطويلة فلم تُنتَج بعد، إذ كان الغالب من حيث الطول هو الأفلام الوثائقية، ومن هنا نجحت نزيهة العريبي في الوصول إلى شاشات العرض العالمية، فعُرِضَ لأول مرة فيلم حقول الحرية في مهرجان تورنتو عام 2018 ولاقى استحسان النقّاد، لينطلق بعدها مُرشَّحاً في مهرجان ستوكهولم الدولي للأفلام وفي سلسلة عروض في معهد الفيلم البريطاني (تحمل العريبي الجنسية البريطانية فضلاً عن الليبية). تُوثّق العريبي في فيلمها فريق النساء الوطني لكرة القدم، بدءاً من اندلاع الانتفاضة وحتى عام 2016، دون وعظ، راسمةً إحدى الصور القليلة التي تؤرخ اجتماعيّاً لأحوال الليبيين.
عام 2019، بعد تأسيس شركة خيال الوليدة، قام مهند الأمين بكتابة وإخراج وإنتاج فيلم السجين والسجان القصير، الذي يَعرضُ جانباً من وقائع مذبحة سجن بو سليم في 29 حزيران (يونيو) 1996، وتبعاتها ما بعد انتفاضة 2011. وإذا ما تجاهلنا ثنائيات التمثيل البصري المهيمنة على نَفَس الفنان الليبي، والماثِلة حرفيّاً في عنوان الفيلم، يُعَدّ الفيلم مهمّاً، كونه إنتاجاً سينمائيّاً من شركة تُعنى بصناعة الأفلام والدعاية (شاركت في الإنتاج شركات ومؤسسات من خارج ليبيا). وما تبدّى في إنتاج خيال لا يشبه ما أنتجته الخيالة. الأولى شركة مستقلة لا تسيُّرها إيديولوجيا سلطوية، لكن الثانية قادرة على توفير دور عرض على الأقل.
المشهد السينمائي، إن وُجِد، مجبولٌ بطبائعهِ المطاوِعة على إدامة الأصوات ذاتها. لا مراجع لهذه الأصوات عدا الأفلام التجارية عالميّاً، ولا مراجع وطنية إطلاقاً. يجوز أن نُشخّص جانباً من العطب في متلازمة الأجوبة السهلة التي تعتري كل فنان يَصْبوا إلى «فنٍّ هادف»، فيصبح شغله مُنصبَّاً على جودة الصورة والمونتاج السلس. هذا ما تجاوزته سينما القمع تحت حكم فرانكو في إسبانيا، وفي الاتحاد السوفييتي بعد ستالين، وفي البرازيل وتشيكوسلوفاكيا وتايوان بسينماهُم «الجديدة»، وفي إيران التي لا يغترب سينمائيّوها عن سجونها، وغير ذلك.
على أن الحديث في البعيد يُعقّد الأمور. وفي القريب لا تجوز المقارنة بسينما القمع في الجارتيْن مصر وتونس، فللبلديْن مشهد سينمائي ضرب جذوراً تسمح بالتعبير في حدوده المرسومة. ربما جازت المقارنة بالسودان، إذ ثمة تشابه في المشهد السينمائي، لا سيّما في معوقات العرض التي تظهر في فيلم الحديث عن الأشجار (2019). بيد أن للسودان تجمّعات متينة، بالإضافة إلى صنّاع الأفلام الذين يظهرون في الوثائقي المذكور، مَكَّنتها من إنتاج أفلام قوية أبرزها فيلم ستموت في العشرين (2019). ليست محنة الفيلم الليبي محنة قمع أو غياب دُور عرض وحسب إذاً.
بالعودة إلى حقول الحرية، يخبرني أخي في السينما، عبد المجيد الجربي، وهو صانع أفلام مستقلّ، أنه عقب مشاهدته الفيلم في تونس العاصمة، شعر بأن الليبيين صاروا في حديقة حيوان، يتفرج الأجانب على أحوالهم من معسكر «الآخر». كان العرض خاصّاً وبدعوات محدودة. في الليلة ذاتها، يستكشف الجربي ضيق رؤياه ويقتنع أنه لا مناص من العرض خارج ليبيا، فقد عادت خصوصية العرض إلى حماية النساء الظاهرات في الفيلم أولاً، وإلى غياب السينما في البلد ثانياً.
على أي حال، يبات صانع الأفلام الليبي – أو نجرؤ على ذكر صانعات الأفلام؟ – رهينة مشهد لم تتحقق شروطه بعد. إذا توفَّرَ رأس المال، فمآلات المشروع دعائية، سواء من رجال أعمال أو من الدولة. وإذا توفّرت حرية التعبير، فهي ما وراء الحدود الإقليمية. وإذا توفَّر العرض، فهو يخدم «الفن الهادف». ربما يجدر بهذا الصانع أن يُراقب حال من هو أكثر حظاً: الروائي والمسرحي والشاعر والفنان التشكيلي – أيضاً، هل نجرؤ على ذكر الرقص وفنون الأداء؟ – فهم قادرون على خلق أعمال على الأقل. في ظل ظرفٍ يسود ويَسهُلُ فيه التجريم والتهديد والتكفير، تبدو مشكلة السينمائي الليبي مشكلة إمكانية خلق بالأساس.