رسائل هوشنك أسدي… الأمة والسجون في إيران المعاصرة

 

عرفت المكتبة العربية في السنوات الماضية عددا من المذكرات التي تناولت واقع السجون الإيرانية بعيد ما عرف بثورة 1979، وعلى الرغم من أن مشاهد التعذيب التي عاشها هؤلاء السجناء لا تبعد كثيرا عن واقع السجون العربية. مع ذلك فٌن ما ميز بعض النصوص الإيرانية في هذا الجانب، أنها لم تحصر نفسها بعالم السجن فحسب، وإنما اعتبرت هذا العالم مدخلا لقراءة تاريخ إيران المعاصر. ولعل هذا ما قرأناه مثلا مع مذكرات بهروز قمري (قوافل الإعدام) التي روى فيها قصة عشرة أشخاص التقى بهم في سجن أيفين، ولكل واحد منهم ألف حكاية وحكاية عن المجتمع الإيراني. الشيء ذاته ربما ما نراه مؤخرا مع صدور ترجمة كتاب الصحافي الإيراني المعروف هوشنك أسدي «رسائل إلى معذبي» ترجمة ماجد عاطف، مركز محروسة، إذ حاول أسدي في هذا المذكرات، أو الرسائل رواية تاريخ إيران المعاصرة وما عرفته بعد عام 1979، من خلال تجربته في السجن لمدة ستة أعوام (1983ـ 1989). بعد خروج أسدي بسنوات، أرسل له أحد الأصدقاء صورة عبر البريد الإلكتروني، وسأله إن كان يعرف أحد الأشخاص الموجودين فيها، وبالفعل تعرف عليه، ويدعى الأخ حميد، الذي عين سفيرا لإيران، لكن بالنسبة لأسدي لم يكن هذا السفير مجرد مسؤول من المسؤولين الإيرانيين فحسب، بل كان قبل ذلك هو السجان الذي عذبه لسنوات طوال في (سجن مشترك) ولذلك قرر بعد رؤية هذه الصورة كتابة رسائل إلى هذا السجان أو المعذب، روى فيها ما عاشه من آلام على يده، وما عرفته إيران من تغيرات بعد قدوم الخميني للحكم.
في 6 فبراير/شباط 1983 وجد أسدي نفسه في السجن، وكان المعذب حميد يجلده وهو ينادي «يا فاطمة الزهراء» وبعد أن يتعب من ضربه، يجلس ويدير شريط الكاسيت: «كربلاء كربلاء.. نحن قادمون». أكثر ما آلمه في هذه اللحظات، هو انقلاب الأحوال في إيران بسرعة، إذ كان كما يذكر أسدي من الذين حملوا سلاحهم ووقفوا في الحادي عشر من فبراير 1979 يدافع عن الثورة الإسلامية ، لكن لم تمر سوى سنوات قصيرة حتى وجد نفسه في سجن مشترك، الذي كان اسمه خلال عهد الشاه «سجن اللجنة المشتركة لمكافحة التهريب» قبل تغييره إلى سجن «التوحيد» بعد الثورة.

صديقي خامنئي!

لا يقف أسدي في مذكراته عند حدود السجن، وإنما قرر العودة بنا إلى ذكرياته في فترة الطفولة، وما عاشته إيران منذ الخمسينيات تقريبا. كان الشاه قد قمع عائلة جده وصادر أملاكهم، ولذلك حاول والد أسدي التخلص منه عند ولادته من خلال رميه في بركة ماء باردة، إلا أنه نجا بأعجوبة. وعلى اثر هذه الحادثة قررت والدته تسميته باسم هوشنك، وهو أحد أبطال ملحمة الشاهنامة للفردوسي. تذكر الصحافية الإيرانية كاميليا انتخابي فرد، في سيرتها، أنه بعد اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، تحولت مدارس الفتيات إلى أماكن للرقابة والدعوة، ولم تقتصر على لباس الطالبات وحجابهن والصلوات، وإنما طالت حتى الأسماء. إذ أخذت مدرسات التربية يدققن على الأسماء، واذا وجدنا اسما غير إسلامي مثل (كاميليا) حاولن تغييره إلى اسم إسلامي، الشي ذاته هو ما عانى منه أسدي بعد دخوله سجون الخميني 1983، فخلال التحقيقات والتعذيب كان المحققون يسألونه مرارا وتكرارا «لماذا سميت نفسك هوشنك.. لماذا لم تسم نفسك محمد أو عليا؟». كان والده كثير العلاقات الجنسية، وطالما تصرف بقسوة في المنزل، بدت علاقته بوالده أولى محطات التعذيب الذكوري في إيران، فبعد سنوات ومع دخوله للمدرسة، ظهر معذب آخر، تمثل في صورة مدير المدرسة الذي كان يضربهم بلا رحمه. عرف في فترة شبابه بنشاطه في الحراك اليساري الإيراني المناهض للشاه، ولذلك بدا من الطبيعي أن يتعرض للسجن.

علي خامنئي في بداية الثمانينيات

أكثر اللحظات لافتة للنظر في تجربته مع سجون الشاه هي في خريف 1974، ففي أحد تلك الأيام اعتقل أسدي ونقل إلى (سجن مشترك) وعندما دخل الزنزانة عثر في داخلها على رجل شديد النحافة، ذي لحية سوداء طويلة، يضع نظارة طبية. وقف الرجل وابتسم له ابتسامة لطيفة ومد يده قائلا: «سيد علي خامنئي.. أهلا بك». ومع مرور الوقت في الزنزانة، نشأت علاقة ود وعاطفة بين خامنئي وأسدي، وقد بدا له خامنئي آنذاك رجلا يقضي أغلب وقته واقفا بجوار النافذة. يقرأ القرآن بهدوء، ويصلي، ثم يبكي بصوت عال. كما بدا له يتمتع بدراية فريدة بالأدب المعاصر، خاصة الشعر. وعلى الرغم من أن أسدي شعر بخيبة أمل أنه لم يكن مولعا بفرخزاد وأحمد شاملو، وهم من أشهر الشعراء المعاصرين في إيران، إلا أنه اتفق معه في حبه الشديد لأشعار كل من مهدي أخوان ثالث وهوشنك ابتهاج، وهم اثنان من الشعراء الإيرانيين شبه الكلاسيكيين، كما عبر له عن كرهه لصادق هدايت، أحد الرواد الأوائل للرواية الإيرانية، وكان مولعا بالتدخين، على خلاف دعوات رجال الدين للمؤمنين بالإقلاع عنه.
لن تتوقف علاقة أسدي بخامنئي عند حدود السجن، فبعد خروجهم، وتحول خامنئي لاحقا إلى أحد أقطاب الحكم الجديد، ظل يعامل أسدي بمودة واحترام شديدين، ما جعله يلعب دور الوسيط بين حزب توده والإسلاميين، لكن هذه العلاقة لن تشفع له لاحقا، بعد اعتقاله في عام 1983.

أسدي معذبا لأحمدي نجاد!

ولن تكون علاقة أسدي بخامنئي هي العلاقة الوحيدة التي تجمعه بقادة إيران الجدد. إذ يذكر قصة طريفة اخرى تعود لعام 1979 فقبل هبوط طائرة الخميني في إيران بأشهر، أعلن حزب توده أن هوشنك أسدي قد اضطر للعمل كعميل سري في السافاك، وذلك لتزويد الحزب بمعلومات عن خطط المخابرات الإيرانية، وبعد هذا الإعلان، الذي يؤكده أسدي في مذكراته، وبينما كان يسير بالقرب من جامعة طهران، لاحظ خيمة ينبعث منها صراخ وضوضاء، وعندما اقترب منها فوجئ بقصيدة طويلة معلقة عنه وعن حزب توده والماركسية. أخذ يقرأها وعند الانتهاء منها، وجد إلى جانبه شاباً قصيرا قاسي الملامح، وسرعان ما بادره بالقول: «هل تعرف هذا الشخص الذي كتبت عنه القصيدة» وقبل أن يرد عليه أسدي، أكمل هذا الشاب كلامه مخبرا إياه بأن هذا الرجل قد عذبه في السجن! وكان يرفع السوط في كل مرة وهو يصرخ «الموت للإسلام… يعيش لينين». لم يعلق أسدي على كلام الشاب أو يخبره بأنه المذكور في القصيدة الذي يتحدث عنه، ويدعي أنه عذبه يقف أمامه، ولذلك اكتفى بالابتسامة وغادر المكان. مرت أعوام، واذ بأسدي يرى هذا الشاب مرة أخرى رئيسا لإيران (أحمدي نجاد) الذي حاول تسمية كل شوارع طهران بأسماء القتلى الذي سقطوا في الحرب العراقية الإيرانية، معتقدا بذلك أنه بهذا القرار، قد يسرع من عودة الإمام المنتظر إلى (مدينة الشهداء).

خريطة سجون إيران الإسلامية

سجن أسدي لمدة ست سنوات، من بينها سنتان تقريبا في زنزانة انفرادية. كما أن وجوده لم يقتصر على سجن واحد، بل شمل عدة سجون مثل سجن أيفين، وسجن رجائي شهر، وسجن قزل حصار. بدا من خلال هذه التجربة يدرك أن السجون تمثل الحالة الدرامية للأمة. لن تقتصر مشاهد التعذيب التي عانى منها على الضرب أو الجلد، وإنما شملت أيضا مشاهد أخرى قاسية للغاية، ومنها مشهد إعطائه مشروبا لتليين المعدة، ما اضطره إلى التبرز على نفسه، وحينها قرر المعذب وضع اللباس في فمه مرة أخرى. يكتب أسدي في هذه اللحظة «لقد وفيت أخيرا بوعدك السابق ، يا أخ حميد: أجبرتني على أكل برازي».

شاهد على إبادة جماعية

في 25 يوليو/تموز عام 1988، دخل (مجاهدو خلق) إيران عبر العراق وشنوا هجوما بهدف إسقاط نظام الخميني، لكن العملية التي استمرت ثلاثة أيام، وقتل خلالها معظم المهاجمين. وعلى أثر هذه الحادثة أصدر الخميني فتوى تقضي بالتعامل مع أعضاء المجموعة الموجودين في سجون إيران بوصفهم محاربين، ويحكم عليهم بالإعدام. بعدها بشهر تقريبا، كان أسدي شاهدا على مجزرة داخل سجن أيفين.. أجبر وعدد من السجناء على النزول إلى قبو كبير، وهناك رأى مئات الجثث معلقة كالذبائح في خطاطيف تتدلى من السقف، طلب منهم أحد السجانين كتابة أسمائهم على أيديهم، وهو ما كان يعني قرب تنفيذ حكم الإعدام بهم. أخذ الحراس يضحكون ويتبادلون الأحاديث الودية أثناء تنفيذهم لتلك الإبادة، وبينما كان أسدي ينتظر لحظة إعدامه، فاذا بحارس يخرجه من القبو، ليعلم بعدها بعد أشهر (خرج في عام 1989) أن من أصل خمسة آلاف يساري تم إعدامهم، بقي عشرة أشخاص على قيد الحياة.

كاتب سوري