زلزل يزلزل فهو مزلزِل ومزلزَل.. وإنسان زل أي انحرف عن طريق الصواب، وأي صواب بقي للسوريين.. إذ نالتْ من صوابهم خمسون عجفاء بعثية تلتها عشر عجاف ثورية، صوابهم الأوحد بات في موتهم؛ دفنوا في البحار، في القفار، وفي الثلوج. لقد قضمت أرواحهم وأجسادهم حيتان الحرب قبل حيتان البحار. لم يقتلهم الزلزال بل نحن من قتلهم.. نعم قتلوا عندما حُرّفت «الثورة» إلى ثروة للبعض.. قتلوا عندما أُضيفت أول قطرة دم جديدة إلى بحر الألم السوري.
(حطم سيفك وتناول معولك، واتبعني لنزرع السلام والمحبة في كبد الأرض).. هكذا قال إلهنا بعل منذ 5000 سنة، لكنّنا حملنا السيف حازّين رقاب بعضنا البعض. لمّا تلحج سيوفنا طيلة عشر عجاف ولمّا تَكّلْ. بقيت سيوفنا مُضمَّخة بدماء أهلنا، مُشّبِعة ضواري البر والبحر من أجسادنا، التي أضحت رخْصَة جداً، مرمية في الطرقات.
لقد تثلَّم معولنا لا من حراثة الأرض لزرعها، ولا من حفر قبور لمواراة جثثنا، بل تثلم فقط من حفر خنادق القتال. أما أرواحنا فهي هائمة في فضاء ركامات الحرب قبل ركامات الزلزال، منفصلة عن وعينا. أرواحنا باتت تائهة ومجيدة لتوهانها؛ تتيه ذات اليمين، فيحصدها منجل الفرقة، وذات الشمال، فيعصف بها زلزال رب العزة والجلال.. أرواحنا هائمة تنتظر مخلصها، تائهة تبحث عن قبر اسمه وطن.
كطبيب ما فَتئتُ مشبّهاً «الثورة» السورية بالكارثة الطبيعية: إعصار أو زلزال أو تسونامي.. أمر لا يمكنك إيقافه أو اتقائه، لكنك تعالج فقط نتائجه. لقد أَدْلَت الطبيعة بدلوها وشاركتنا المقتلة الوطنية. ولمّا يبق نفر منّا لم يساهم في المأساة فما المانع أن تقاسمنا الطبيعة أيضاً في ذلك.
سوريون وسوريات متألمون ومتألمات (بس طالعني والله العظيم إذا طلعتني شغلني خدّامة عندك)1.. للأسف بنيتي هل كنت جالسة في خدر أبيك؟ لا.. فنحن ما كنا طوال عمرنا إلّا خدماً، وما صرت إلا هاربة من أنواء حرب ضروس عاتية.. ما كنت إلا هزيمة أخرى لنا.. هزيمة لطفولتك أمام عتو قلوبنا ويُبوسة رؤوسنا.
سوريون وسوريات تائهون وتائهات عن متاهات العقل البشري (عمو أخواتي بس ميتين …وأمي)2 آه بنيتي!!! وأي إرادة تملكتك لتقولي ميتين؛ لم تحترْ سنون طفولتك في اختيار الكلمة المناسبة: ميتين، نعم فنحن لم نكن أحياء يوماً، نتعايش مع موتنا أبداً، كنا على قيد حياة أوهى من بيت عنكبوت كهل.
(عمو اصبعتي)3شاهرة سبابتها المريرة؛ شاهدة على خذلاننا لها، حارسة على تغولنا في قضم بعضنا البعض، إصبع مطأطئ الرأس يليق بآثامنا بحقكم.
(عمو؛ طول الليل عم أتوجع)4 ونحن الموجوعون منذ الأزل.
(عمو اتركني موت ولحّق أهلي)5 آه يا بنيّ وألف آه لو كان الأمر بيدي، أو بيدك، للحقنا بالأرواح المغادرة على عجل.. للحقنا بكل أحبتنا الراحلين عنّا هنا.
(حمدا لله ع السلامة): يقولها رجل الإنقاذ لطفل سوري، ويرد الطفل السوري بلباقة رجل ناضج (الله يسلمك)6.. لقد زوّدته بتلك اللباقة مورثات السوريين الصافية النقية قبل ان تلوثها شوائب الحرب.
(جيراني كلون راحوا)7 نعم أماه؛ لم يبق حولك من تشربين معهم قهوة، بنكهة ألم هذا الوطن، حتى لو كانوا محتلين لِدُورِ جيرانك الأصليين.
الطفلة السورية حديثة الولادة ابنة عفراء أبو هدية خرجت من رحم أمها إلى رحم الأنقاض، بقيت متصلة بالحبل السري مع أمها المتوفاة، لم يُغثها أحد في بردها وجوعها، فقط أمها المتوفاة ظلّت تمدها ببقايا الألم السوري حتى تبقى على قيد الحياة، لتروي معجزة لن يصدقها أحد غير السوريين البارعين في معجزات البقاء على قيد الحياة.
سوريون وسوريات راحلون و(كلهم بخير إلا أنا)8 نعم نحن الباقون هنا سالمون لكننا لسنا بخير، الراحلون هم المحظوظون؛ أكرمهم رب العزة والجلال بإنهاء معاناتهم بزلزال أولاً وثانياً أكرمنا بمنع تلطخ أيادٍ سورية أخرى بدمائهم؛ وإنها لعمري المرة الأولى التي يُقتل نفر منّا لكن ليس بأيدي بعضنا الآخر، ودون أن يردد أحد منا كقتلة تكبيرات النصر وتهليلاته.
إلهي لا ندري ما تخبئه لنا في عليائك، لكن يا ربنا متى سنحظى نحن السالمون هنا من لدنك برحمة تنقلنا بها إلى ملكوتك؛ دون أن تتلوث أيادي بعضنا الآخر بدمائنا.
سوريون وسوريات متوفون وأحياء عالقون تحت ركامات بيوتهم؛ لم يكن لنا ذرة من الرحمة في قلوب أمراء حربنا ولا مثقال من الأخلاق للأمم المتحدة ولا المتفرقة حتى.. لم يرأف بنا قارب خَرِب أو «بلم» مطاطي.. لا متسع لنا في شاحنة نقل دجاج مذبوح، ولا قبور تؤوينا.. كنّا بأحيائنا وأمواتنا حِمْلاً زائداً في صخب هذا العالم؛ لكن أخيراً وليس آخراً تعطَّف علينا رب العزة والجلال بمثاوٍ في أرضه تتناسب طرداً مع كَمِّ حقدنا تجاه بعضنا؛ ويا ويلتاه كم هي كبيرة مراقدنا.. إنها أقرب لضخامة الأهرامات.
إخوتي ارقدوا بسلام في أنقاضكم فلئن كانت الأهرامات شاهدة على عظمة الفراعنة، وتتعامد الشمس مع مراقدهم ضمن الأهرامات مرة في السنة معلنة بدء موسم حصاد الثمار، فركامات الزلزال أضيفت لأنقاض المقتلة الوطنية، شاهدة على فظاعاتنا، وبالرغم من ذلك مع كل ما جرى ويجري فكلي ثقة أن الشمس لابد وأنْ تتعامد مع مراقدنا يوماً ما،
لمْ نُشِدْ خلال عشرنا العجاف في هذا الوطن إلا ما يفي بحاجتنا لقتل بعضنا البعض، ولم نحتج يوماً لخبراء أغراب لبناء آلات القتل خاصتنا، ولم نأخذ من الأمم إلا مواد أولية لصناعة القتل. لقد صمّمنا بخبراتنا الوطنية «الحلفاويات» و»العاموديات» 9أولاً وفخخناها تالياً.. قدمنا للبشرية مدافع جهنم10.. أبدعنا البراميل الساقطة من السماء11.. أجدنا في مضغ أكباد بعضنا البعض.. نحرنا بعضنا البعض من السبات والوداج، من القفا والأمام. وتصيدنا بعضنا على كل الهضاب والوديان بأقبح الأفخاخ وأقذر النعوت.
كل آلات القتل كانت براءة اختراع سورية بامتياز. وأضحت أخلاقنا كما براميلنا ساقطة ليس فقط من السماء؛ بل من أخلاق الفرسان كذلك.. بِتْنا كلنا الزير سالم ولا نصالح. نعم لقد قُسّيَتْ قلوبنا على بعض وصرنا جميعاً من الفصيلة المصمتة القلب؛ إذاً هل كنّا ندّخر حقدنا على بعضنا منذ آذار1963 لنجتره في آذار2011 ؟،
لمْ نتشارك حتى الحزن على المنكوبين!!! فلم يعلن أيٌّ منّا، على اختلاف أعداد النجوم وألوانها في بيارقنا، الحداد على ضحايانا.. لم نتقبل الإغاثات من بعضنا القريب جداً، وانتظرناها من الغريب البعيد جداً!!!، إذاً لا يحق لنا ولو بعتاب رقيق أن نلوم الأمم على عدم تقديم العون لضحايانا، لا نملك حق الشكوى حتى لو (خف أنين العالقين تحت الأنقاض).
سأخبر الله بكل شيء!!! قالها أحد أطفالنا حين رحيله للقاء الباري عز وجل، نعم بنيّ نحن مَن أكلنا الحصرم وانتظرنا بفارغ الألم تضرسكم به.. نعم بنيّ عند الله سيجتمع كل السوريين، أما أنا فلن أنتظر حتى ذاك اليوم، أقولها منذ الآن واضحة جلية؛ ساسة سوريا لم أخجل يوماً من سوريتي، لكنني خَجِلٌ من انتمائكم إليها.
(8،7،6،5،4،3،2،1): من العبارات التي قالها ناجون من الزلزال.
(9): أنماط خاصة من المركبات صنعها السوريون.
(11،10): من الأسلحة التي أنتجها السوريون.
كاتب سوري