قمتان في الإبداع والفكر “توافقتا” على كل شيء ما عدا الاسم الحقيقي لشاعر الإنجليز

فرويد بدأ قراءة شكسبير في الثامنة من عمره (غيتي)

على رغم الفارق الزمني الكبير بين ويليام شكبيير (1564 – 1616) وسيغموند فرويد  (1856 – 1939) وهو فارق قد يصل إلى ما يزيد على ثلاثة قرون، فإن التوافق الفكري وربما في المزاج أيضاً، يبدو لنا اليوم لافتاً مدهشاً، بين شاعر الإنجليز وكاتبهم المسرحي الأكبر من ناحية، ومؤسس التحليل النفسي عند بدايات القرن الـ20 من ناحية ثانية.

لكن الدهشة ستتلاشى إن نحن تذكرنا ما كان ينقله إرنست جونز، مريد فرويد وحافظ تراثه، وكاتب سيرته الأكثر تداولاً بين المئات التي صدرت عنه في كل اللغات، من أن فرويد لم يكن يتوقف عن الإشارة إلى أنه أنجز قراءة شكسبير بكامله قبل سن المراهقة، وأن تعمقه في قراءته كان واحداً من الأمور التي دفعت به إلى ابتكار التحليل النفسي كفرع من علم النفس ولسان حاله يقول إنه لا بد له أن يبادر ذات يوم إلى إخضاع الأدب إلى التحليل النفسي، وهي ممارسة ربطت الأدب بالتحليل النفسي بانكباب فرويد على ذلك الربط بينهما من دون هوادة، وليس فقط، على أية حال، من منطلق اهتمامه اللاحق بشكسبير وبخاصة بتراجيديات هذا الأخير الكبرى، بل بدءاً على أية حال من “اكتشافه” عقدة أوديب التي سيتولى جونز نفسه الاشتغال على علاقتها بـ”هاملت ” من منطلق فرويدي تحديداً.

منذ الصفحات الأولى

ومهما يكن هنا، لا بد من العودة إلى جونز نفسه، وبشكل أكثر تحديداً، إلى السيرة التي كتبها جونز لفرويد، بعد سنوات من رحيل هذا الأخير، إذ تطالعنا أخبار العلاقة بين فرويد وشكسبير وتلفت نظرنا خصوصاً أن “أخبار” تلك العلاقة ترد مبكرة جداً، أي في الجزء الأول من السيرة ومنذ صفحاتها الأولى ما يحمل كل دلالاته، تلك الدلالات التي سيبني عليها معظم كاتبي سيرة العالم النمسوي الكبير، تحليلهم العلاقة بين القمتين، متفقين على أمور كثيرة ومختلفين على أمور أكثر.

وبالنسبة إلى جونز، هو يبكر إذاً، في ربط شكسبيرية الفتى فرويد المبكرة بما كان يمكن تلمسه لديه من معرفة معمقة باللغات الأجنبية التي كان يتقن عدداً منها ولا سيما الفرنسية والإنجليزية، وهو الذي كان أكثر ما يفرحه من هدايا تقدم إليه في فتوته طبعات قديمة وأصلية لكتابات شكسبير التي كان يفضل قراءتها بلغتها الأصلية، بحيث يخبرنا جونز أن “فرويد سيؤكد لي لاحقاً أنه طوال 10 سنوات سبقت بلوغه سن المرهقة لم يقرأ كتباً إلا باللغة الإنجليزية ولا سيما كتب شكسبير”، التي تقول لنا سيرة فرويد إنه “راح يقرأها منذ ما قبل بلوغه الثامنة. وتابع قراءتها طوال سنوات حياته بلغتها الأصلية إلى درجة أنه كان قادراً على استظهار مقاطع كثيرة منها في أحاديثه اليومية، وعدم اللجوء إلى أية مراجع حين يورد بعضها في كتاباته” كما يؤكد جونز الذي يضيف أيضاً أن ما بهره لدى فرويد أكثر من أي شيء آخر “إنما كان ما تلمسته لديه من إعجاب مطلق بما تعمق به بالنسبة إلى روعة التعبير الشاعري لدى شكسبير وتعمقه في فهم الطبيعة الإنسانية”.

وفي هذا السياق نفسه يضيف جونز هنا أيضاً أنه يتذكر “على رغم مرور السنين”، ملاحظات تلمسها بنفسه لدى أستاذه وصديقه تتعلق بنظرة هذا الأخير إلى شخصية شكسبير خارج إطار كتاباته المسرحية أو الشعرية، ومنها كيف أن مؤسس التحليل النفسي في علاقته بالأدب وتحليله، لم يكن ذا مزاج أنجلو – ساكسوني في مواقفه بل فرنسي الهوى والتعبير، إلى حد أن جونز يذكر أن “فرويد بنفسه اقترح ذات يوم أمامي أن اسم شكسبير قد يكون مجرد تحريف لاسم (جان بييير) ليخبرني بعد ذلك بسنوات طويلة أن هذا الاقتراح ليس من بنات أفكار المعلم بل هو وجده لدى الباحث الإيطالي جنتيلي دي نيرفي”.

نصيحة نرجسية

ويضيف جونز هنا أن فرويد نصحه ذات يوم بالسعي إلى دراسة ما ذكره الفيلسوف فرنسيس بيكون حول شكسبير بالنسبة إلى نوع مبكر من المقاربة التحليل- نفسية لأعماله المسرحية “ولم يكن ذلك النصح ناتجاً من تعلق فرويد بتلك المقاربة، بل كان يقصد أن من الضروري دراستها لرفضها عن وعي وإدراك قائلاً: لو كان ما يذكره بيكون صحيحاً، لكان علينا أن نقول إنه كان أعظم دماغ فكري أنجبته البشرية في تاريخها الواعي”.

ولعل حياء جونز تجاه ذكرى معلمه الراحل، فرويد، كان هو ما منعه من أن يضيف أن “نرجسية فرويد كانت هي ما أملى عليه هذه الكلمات التي تشير مواربة إلى أنه يعتبر نفسه ذلك الدماغ لأنه هو من كان مبتكر تلك المقاربة”، لكن جونز لم يقل ذلك بل اكتفى بأن أوحى به كما يمكننا أن نستنتج.

بين المبدع والعالم

ويعيدنا هذا بالطبع إلى مواصلة الحديث عن الارتباط الحتمي بين فرويد وشكسبير ليس فقط لنذكر بأن فرويد، وتحديداً في رسالة بعث بها إلى مارتا التي كانت حينها (1884) خطيبته قبل أن يقترنا، أنه بدأ يقرأ شكسبير منذ سن الثامنة، بل لكي نتتبع جذور الحضور الشكسبيري في أعمال فرويد اللاحقة، إذ نجد ذلك الحضور كبيراً ولافتاً، فما من حضور آخر لأي مفكر أو مبدع يضاهيه في كثافته بتلك الأعمال، باستثناء حضور غوته، الذي يصعب العثور عن ذكر مباشر لمقتطفات محددة منه لدى فرويد الذي يكتفي وفي كل مرة، بذكر عام لأفكاره من دون أن يذكر مصادرها إلا لماماً، والمهم هنا هو أن فرويد غالباً ما يخضع شخصيات شكسبير للتحليل النفسي، وكأن هذا الأخير إنما صورها في أعماله لتكون مادة تحليلية بين يدي مؤسس هذا التحليل.

وفي نهاية المطاف هنا في هذا السياق يمكننا أن نرى مع إرنست جونز أن فرويد إنما كان يرصد لدى شكسبير أمراً شديد الندرة ويتعلق بالتلاقي لدى هذا الأخير، بين دوافع إعجابه المطلق بـ”قدرة العبقري المسرحي على التعبير” و”عمق توغله في الطبيعة الإنسانية” – كما أشرنا أعلاه، و”توغله في تفسيراته التحليل- نفسية”. بعد هذا كله هل سنقف مدهوشين وربما مستنكرين إزاء مشاركة فرويد في تلك السجالات التي كانت حامية في زمنه وتتعلق بهوية شكسبير؟

فرويد وشكسبير “الحقيقي”

في بدايات القرن الـ20 التي شهدت العصر الذهبي للسجالات الفرويدية – الشكسبيرية، كان ثمة عدد كبير من باحثين ومؤرخين يتمسكون، قليلاً أو كثيراً، بأن مؤلف تلك الكتابات المسرحية العظيمة لا يمكن أن يكون هو نفسه الكاتب الذي تحمل توقيعه، بمعنى أن ويليام شكسبير كان مجرد اسم مستعار لمبدع حقيقي هو آخر غير ذلك الممثل الذي وجد حقاً وكان يدعى ويليام شكسبير. وفي هذا السياق كان فرويد يتمسك بنظرية ترفض ما كان يتداوله البعض من أن المؤلف الحقيقي هو لورد يدعى “اللورد بيكون فون فيرولام” وكان معروفاً بمؤلفات عديدة أصدرها في المرحلة نفسها حول الفلسفة والأدب. بالنسبة إلى فرويد لا يمكن أن يكون ذلك اللورد المؤلف الذي يوقع باسم مستعار، ومن هنا رأى فرويد قدراً مقنعاً في صدقية الاقتراح الذي جاء في كتاب صدر عام 1920، لباحث يدعى توماس لوني بعنوان “رفع القناع عن شكسبير الحقيقي” ويؤكد فيه أن المؤلف الحقيقي للمسرحيات الشكسبيرية ليس سوى إدوارد دي فيري المعتبر كونت أوكسفورد الـ17. وهي نظرية بدت مقنعة لفرويد الذي لم يتخل عنها حتى مماته.

ومهما يكن من أمر لا بد أن نقول في النهاية مع الباحث الفرويدي الفرنسي بول لوران أسون في كتابه “الأدب والتحليل النفسي” إن ذلك المقترح هو ما مكن فرويد، على رغم أن من تمسكوا مثله به كانوا مجرد أقلية من الشكسبيريين، مكنه من أن يعيد رسم حكاية شكسبير العائلية عام 1934، رسماً لم يحظ بنجاح يعادل ولو جزءاً يسيراً من نجاح تحليلاته للشخصيات الشكسبيرية.