هناك اعتقاد سائد في الإعلام الأميركي أن إدارة بايدن هي في حرب فعلية مع النظام الإيراني. شهدت الـ90 يوماً الآخيرة 37 تلاسناً مع الحوثيين في البحر الأحمر وأكثر من 160 هجوماً على القوات الأميركية انتهت بمصرع ثلاثة جنود عبر استهداف طائرة من دون طيار قاعدة عسكرية أميركية شمال غربي الأردن. الخط الأحمر بالنسبة إلى الإدارات الأميركية هو مقتل الجنود، تستوعب واشنطن كل ما تفعله طهران إلّا إذا سقط جنود لها. القوات الأميركية كانت حتى الآن في وضعية دفاعية، أي ترد حين يقترب الخصوم من مسافة تعتبرها مقلقة أو ترد الضربة بضربة محدودة لإيصال الرسالة.
استسهال استهداف القوات الأميركية من دون ردع جدي أدى إلى تكرار هذه الاعتداءات، وهذا كان منطق تبرير البيت الأبيض للضربات في الاجتماعات المغلقة خلال الأيام الأخيرة عند اتخاذ قرار توجيه ضربات متتالية على مدى أيام كخيار وسطي بين الضربات المحدودة والحرب المفتوحة. النتيجة كانت توجيه ضربات جوية لـ85 هدفاً وسبعة مواقع لوكلاء إيران في سوريا والعراق، وضربات أميركية-بريطانية لأهداف في مناطق سيطرة الحوثيين في اليمن، لا سيما الصواريخ المضادة للسفن.
هناك ضغوط متزايدة على إدارة بايدن تقول بأن استقرار المنطقة وحماية الشحن الدولي يحتاجان لردع إيران ووكلائها مباشرةً، وبأن التدابير الدفاعية لم تعد إجراءات كافية لأن النظام الإيراني يعزز قدراته الهجومية، وأميركا قد تخسر المنطقة وحلفاءها إذا لم تشكل قوة رادعة. الحجة المضادة تقول إن أميركا خرجت من المنطقة ولا ترغب بالعودة إليها في المدى المنظور، وبالتالي أي ردع مفرط سيؤدي تدريجياً إلى إعادة انخراط أميركي في المنطقة، حيث هناك حالياً 2,500 جندي أميركي في العراق و900 جندي في سوريا. المقاربة الأميركية الحالية تجمع بين الوضعية الدفاعية والضغوط الدبلوماسية مع استخدام الردع الحاسم عند الضرورة.
إذاً، ما هي تبعات هذه الضربات الجوية ومدى قدرتها على الردع؟ ليست هناك شروط متوافرة لإشعال نزاع مباشر بين إيران وأميركا، حتى مع غياب الاتفاق النووي قرر الطرفان وضع هذا النزاع ضمن قواعد اشتباك أتت حرب غزة لتختبرها. كان هناك قرار مركزي في طهران بأن الضغط لوقف إطلاق النار في قطاع غزة يمر عبر التأثير على الاقتصاد العالمي في البحر الأحمر ومضايقة المصالح الأميركية في المنطقة. هذه المضايقة تجاوزت حدها في الهجوم الأخير، وبالتالي التبعات كانت ضربات أميركية موجعة بأقل ضرر ممكن مقابل ضبط نفس إيراني لتفادي المواجهة. إدارة بايدن انتظرت أسبوعاً قبل أن ترد بضربات جوية، ما أعطى هذه المجموعات الموالية لإيران الوقت لسحب عناصرها والحد من الأضرار، أي أن الردع لم يكن فعالاً لضمان عدم تكرار مثل هذه الاعتداءات، ما أدى إلى انتقادات جمهورية في الكونغرس بأن بايدن متساهل مع إيران ولم يضع نهاية حاسمة لهجماتها المتكررة، وهذه ورقة انتخابية قد يستخدمها دونالد ترامب في حملته الرئاسية. أراد بايدن أن تمر الضربات بأقل ضرر وصدى ممكن، ولم يعلن عنها حتى من المكتب البيضاوي أو في مؤتمر صحفي كما هو التقليد، بل ترك البنتاغون ينفذ الخطة ميدانياً.
النظام الإيراني أيضاً لا يرغب بكل بساطة في الدخول في مواجهة مع قوة أكبر منه مع كل المخاطر التي ينطوي عليها ذلك. طبيعة رد واشنطن تعتمد أيضاً على التقييم الأميركي لمدى قدرة النظام الإيراني في السيطرة على تصرفات المجموعات المسلحة التي تدور في فلكه. تقييم إدارة بايدن قبل أشهر كان أن النظام الإيراني لم يكن على علم مسبق بعملية “حماس” على “غلاف غزة” في 7 تشرين الأول (أكتوبر). التقييم الأميركي الآن أن ميليشيا عراقية موالية لإيران كانت وراء استهداف طائرة من دون طيار برج 22 في قاعدة التنف في جنوب شرقي سوريا حيث يتمركز 350 جندياً أميركياً، وهذه ضمن سلسلة اعتداءات على المصالح الأميركية في العراق وسوريا بدأت منذ 18 تشرين الأول الماضي، من ضمنها آخر اعتداء بالأمس على قاعدة “خراب الجير” الأميركية في العمق السوري. بايدن لم يعط جواباً واضحاً حول ما إذا كان النظام الإيراني وراء الهجوم على قاعدة التنف، لكنه قال: “أنا أحمّلهم المسؤولية، بمعنى أنهم يزودون الأشخاص الذين فعلوا ذلك بالأسلحة”، لكن من الصعب القول إنه ليس هناك أي دور إيراني في ظل تحركات موازية لكل هذه المجموعات من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان. كما استهدف البنتاغون خطوط امداد الاسلحة الايرانية للوكلاء في سوريا ولبنان لكنها ضربات محدودة التأثير لان عرقلة خطوط الامداد هذه تتطلب إعادة انخراط عسكري في المنطقة لا ترغب به اميركا حالياً.
لكن تبقى مخاطر الحرب قائمة إذا حدث سوء تقدير بين الطرفين في ظل عدم وجود تواصل مباشر بينهما ولا حتى قنوات خلفية في هذه المرحلة. لكن هناك عائقين في الداخل الأميركي لحرب كهذه إذا افترضنا أن بايدن أرادها. أولاً الحرب تحتاج إلى تفويض من الكونغرس، وهذا الأمر غير متاح حالياً، لهذا اختار البيت الأبيض عطلة نهاية الأسبوع لتوجيه ضربات متتالية للمجموعات الموالية لإيران. ثانياً، معدل البطالة تراجع إلى 3,7 في المئة الشهر الماضي، وآخر شيء يريده البيت الأبيض هو إشعال حرب في الشرق الأوسط قد تقوّض الاقتصاد العالمي وتعيد وتيرة التضخم المالي. النظام الإيراني أيضاً لديه حسابات استقراره الداخلي ويتفادى حرباً تزيد من المخاطر الاقتصادية والسياسية.
في المحصلة، لا يمكن تقييم محاولات الردع الأميركية قبل انتهاء لائحة الأهداف وانتظار أي رد إيراني جدي إذا كان هناك من رد. التساؤلات إذا ما دخل بايدن في حرب مع إيران هي للاستهلاك الأميركي المحلي، لا مؤشرات إلى ذلك حتى الآن.