الكتّاب العرب في بلادهم الأصلية
حين أشاهد الكتّاب المصريين ينشرون أخبارهم على صفحات التواصل الاجتماعي في بلدهم، وخاصة في هذه الأيام، وأثناء انعقاد معرض القاهرة للكتاب، أشعر بغصّة كبيرة.
رغم أنني تواجدت قبل ذلك، ولمرات عدة، في معرض الكتاب في القاهرة، وغيرها من الدول العربية، كالمغرب، والإمارات العربية المتحدة، وغيرهما، ورغم السعادة الكبيرة التي نشعر بها نحن الكتّاب المقيمين في بلاد أوروبية خاصة، إذ نلتقي بأصدقائنا الكتّاب القادمين من بلاد أخرى، لا يتسنى لنا الفرص لنلتقي. ورغم فرحنا بالاحتفاء بالكتب والحديث عنها، أشعر، ككاتبة سورية، أني فقدتُ تمامًا إمكانية مصاحبة كتابي في بلدي الأول سورية.
في أحد الحوارات المتلفزة مع الروائي طارق إمام، تحدث عن العالمية والترجمة، وقال بما معناه بأنه لا يشعر بالحاجة إلى أن يكون مُترجمًا إلى لغات أخرى، فهو يحس بالإشباع الثقافي في بلده، وأن مكانه الأدبي في مصر يكفيه.
أحسد طارق إمام، وأحسد كل كاتب مصري، أو عربي، يستطيع اللقاء بقرّاء بلده، داخل هذا البلد. هذا الإحساس لم أختبره يومًا، حين تركت سورية خلفي قبل عشرين عامًا، فلم أكن معروفة آنذاك، ولم أشارك يومًا في ندوة أو محاضرة، ولا حتى على مستوى صغير من قبل اتحاد الكتاب العرب، مثلًا، أو أية مؤسسة ثقافية صغيرة داخل البلد.
على العكس تمامًا، ساهمت هذه المؤسسات الثقافية في تهميشي، ومنعتني من النشر، حين لم تعطني الموافقة على طباعة كتبي، لأسباب تتعلق بمنطق الرقابة الغريب في سورية، إذ أن على الكاتب أو الناشر الحصول على موافقة وزارة الإعلام، ناهيك عن الموافقات الأمنية التي تديرها السلطات السياسية والاستخباراتية في البلد.
أتفرج على نشاطات الكتاب المصريين داخل بلدهم، وأراهم كيف يديرون الندوات في ما بينهم، بل وكيف يستقبلون كتّابًا أجانب، أو عربًا من جنسيات أخرى، ويحاورونهم تحت مظلة ورعاية إدارة معرض الكتاب.
أنا، كسورية، أجهل تمامًا هذا الإحساس، وأكبر ما حصل لي في سورية هو الندوات والقراءات التي تقيمها منتديات القراءة التي يشرف عليها قراء يختارون، وفق ذائقتهم الخاصة، كتبًا لكتاب من العالم العربي، أو الغربي. وهذا ما حصل لي، حين نوقشت بعض رواياتي في اللاذقية والقامشلي، وربما في مدن سورية أخرى، لكن لم تصلني أخبار تلك المناقشات.
حتى في هذه المناسبات، أشعر باليتم والحسرة، لأنني لا أستطيع الذهاب إلى سورية واللقاء بالقراء الذين يعرفونني عن بعد، والذين هم وحدهم، من جميع القراء في العالم، الذين لا يمكنني اللقاء بهم، إلاّ إذا غادروا سورية.
حتى الكتابُ الفلسطينيون، ورغم خصوصية فلسطين كدولة ترزح تحت قوانين الاحتلال، فإن الذين يقيمون هناك، في جميع أنحاء فلسطين، في بلدهم الذي ينتمون إليه، يستطيعون إقامة المشاريع الثقافية والاختلاط بجمهور القراء، وأنا شخصيًا، شاركت في بعض هذه النشاطات، حين ذهبت إلى رام الله بمناسبة ملتقى الرواية الأول. وكذلك فعل كثير من الكتاب السوريين الذين أقاموا نشاطات أدبية في فلسطين. هؤلاء الذين لا يمكنهم أن يحلموا بتوقيع كتبهم في سورية، ولم يكن أحدنا يحلم من الأساس بتوقيع كتبه في فلسطين، لكن حلم فلسطين الصعب هو الذي تحقق، بينما الحلم السوري لا يزال في خانة المستحيل.
حين ذهبت إلى أربيل
في أربيل، وقعت روايتي “مقام الكرد” لجمهور مختلط من القراء، ضم كثيرًا من السوريين، ممن يعيشون هناك، والذين استطاعوا نقل الوطن من سورية، وزرعه في إقليم كردستان، لأنسى للحظات أنني لست في عفرين، المنطقة التي أنتمي إليها جغرافيًا، والتي تعد إلى حد ما مسقط رأسي، وإن لم أكن وُلدت هناك، لكن أقاربي جميعًا انحدروا من هناك، ويرقد في قبورها أقرب الناس إليّ: أبي وجداتي الثلاث وعماتي وأعمامي…
منحتني أربيل إحساس الوطن الأدبي، وخاصة في اللحظة التي دخلت فيها إلى مكتبة هافال، حيث الندوة الحوارية التي أقيمت لي، والتي أدارها الصديق الناقد كه يلان محمد، وتلاها توقيع روايتي، وما إن سمعت إحدى الأغاني التي استخدمتها في روايتي ذاتها، والتي اشتغلت فيها على المقامات الموسيقية، وتوقفت في أغلب الرواية لدى مقام الكرد، شعرت أنني أعيش في وطن خاص بي: وطن الرواية التي أتحدث فيها عن الموسيقى، وعن الهوية، وعن الكرد… ضمن هواجس إبداعية شديدة التداخل والتعقيد.
حين كنت أوقع نسخًا من الرواية، وحين ارتأت سوزانا، الشابة المتحمسة لكل هذه النشاطات، والتي تعمل في معهد غوته في أربيل، الذي استضافني، أن تجمع أغاني الرواية في قائمة ليتكرر سماعها، قلت مندهشة: أشعر أنني امرأتين معًا، الأولى التي كانت تكتب هذه الرواية برفقة هذه الأغاني، مختبرة مشاعرها وانفعالها بالموسيقى، أثناء الكتابة، والثانية، وهي اليوم هنا في أربيل، توقع النسخ المطبوعة والمنشورة من الرواية، وهي تصغي إلى الأغاني ذاتها…
هنا امتد الوطن، وأحسست بأن القدر يمنحني قطعة من الانتماء الذي حُرمت من عيشه، منذ غادرت سورية، ولا أعتقد أنني سأعود لها ذات يوم.
حين رحت أناقش صديقتي الفنانة السورية المنفية مثلي، والتي تعيش في فرنسا، وتعجز عن الاندماج والانسجام مع هذه البلاد، حول مفهوم الوطن فيما لو كان هو المكان فقط، وبعد تفرعات طويلة في الحديث، توصلت إلى الاقتناع بأن الوطن هو الذاكرة، وهو المرحلة المحببة لدى الإنسان، وغالبًا تكون مرتبطة بالطفولة، لهذا تمكنت من استرداد بعض أجزاء طفولتي المفقودة، أو وطني المتروك في أرض الطفولة، أي سورية، في العراق، وخاصة في أربيل، عبر وجود السوريين، الذين تربطني بعض أواصر إضافية للذاكرة المشتركة، حيث الاهتمام بالأدب، وتحديدًا الرواية.
حي حاتم علي في كندا
متابعة تنقيبي حول علاقتنا نحن الكتّاب والفنانين المنفيين، أو المهاجرين، أو المهجّرين، ببلادنا الأصلية، توقفت لدى تجربة “حي حاتم علي”، المؤسسة التي ناقش الفنان الراحل مع مجموعة من أصدقائه المقيمين في كندا، فكرة إطلاق مؤسسة للإنتاج ترعى المواهب الفنية المتواجدة في كيبيك، وقد رأت هذه المؤسسة النور بعد رحيل حاتم، حيث قامت الفنانة السورية عليا خاشوق، المقيمة في كندا، بكتابة وإخراج مسرحية “كرز”، التي عملت عليها داخل هذه المؤسسة، وحيث تقول عليا في أحد الحوارات التي أُجريت معها: “هدفنا جعل أصواتنا أكثر حضورًا في المشهد الثقافي الكيبيكي، يجب أن تروى الحكاية على لسان أصحابها الحقيقيين وإلا خرجت هزيلة، غير صحيحة وغير حقيقية”.
ربما هنالك مشاريع فنية عدة، فردية وجماعية، قام بها فنانون سوريون في بلاد المنافي الجديدة، لكن يصعب التحايل على الذاكرة، وعلى الرغبة الحارقة، بأن نقوم بما نقوم به من نشاط فني وأدبي في هذه البلاد هناك، في الأرض التي تفهمنا أكثر.
نحن نحب هذه البلاد الجديدة، ونحترمها من دون شك، وأغلبنا يحمل جنسياتها ويتحدث لغتها، إلا أن ثمة ما ينقصنا، هذا الإحساس الذي يمكنني وصفه بالألفة، هذا الدفء بين أبناء بلدك الأصليين، الذين لا تحتاج لأن تشرح لهم كثيرًا عن تاريخك، وأن تفسّر لهم حكاياتك، فهم يتقاسمونها معك، فتُغمر بحميمية التاريخ الجمعي الذي يربط بينكم.
شعرت بهذه الألفة في أربيل، بشكل مؤقت، لأنني عدت مجددًا إلى مكاني الذي صار عنواني الأصلي، والوجهة التي أعود إليها مهما ابتعدت، لتصبح حلب، أو دمشق، أو اللاذقية، أو عفرين، أو القامشلي، مجرد أحلام مستحيلة التحقق، بينما يوقّع وحيد الطويلة الآن روايته الجديدة في معرض القاهرة للكتاب، كما يفعل طارق إمام، كما يفعل كثير من المصريين، مصطحبين أولادهم وأفراد من عائلاتهم وأصدقائهم وجيرانهم، مغمورين بذلك الأمان: أنهم يكتبون وينشرون ويمسكون بكتبهم، في الأرض ذاتها، في وطنهم الذي لا يحتمل التقسيم والمراوحة، بين هنا وهناك، بين الشرق والغرب… وطنهم الأول والأخير، وطنهم الوحيد.