لا شيء يمكن أن يجمّل الحياة في أفغانستان في ظل حكم طالبان، فكيف يمكن الترويج لدولة تُمارس حكومتها الإرهاب يومياً بحق شعبها، وتنتشر في شوارعها الأسلحة ورائحة الموت!

“الحياة في ظل طالبان ليست بهذا السوء”، هل تكفي هذه الجملة التي تصدّرت عناوين الصحف أخيراً لمعالجة ذاكرتنا ومحو المشاهد المرعبة لمئات الأفغان وهم يتعلقون بهياكل الطائرات الخارجية هرباً من أفغانستان، في الساعات الأولى بعد إعلان تولّي حركة طالبان السلطة فيها؟.

من ظهر بتلك الصور هم مواطنون أفغان عاشوا الحياة البائسة في فترة حكم طالبان الأولى، وعاصروا الإرهاب والقمع اللذين مارستهما ضدهم في أواخر التسعينات، وهم الأعلم بأن عودة طالبان تعني القضاء التام على كل هوامش الحريات، وإلا لما كانوا عرّضوا حياتهم للخطر بتلك المشاهد المرعبة.

أصداء هذه الجملة وما تخلّفها من حملة تسويقية لتعويم حركة طالبان سياسياً، عادت لتتردد في المحتوى الترفيهي العربي، من خلال فيديوات الرحالة العرب، الذي تهافتوا فجأة إلى أفغانستان؛ حيث تُقدم طالبان تسهيلات كثيرة لاستقطاب اليوتيوبرز والمؤثرين العرب الذكور إلى أراضيها، بغرض الترويج للحياة الوردية في أفغانستان في ظل حكمها،  وتحظى هذه الفيديوات بنسبة عالية من المشاهدات.

من المثير للاهتمام، متابعة (فلوغات) السفر الى “مكان مُظلم” لا نعرفه إلا من خلال الحوادث المؤسفة في نشرات الأخبار، ولا نسمع منه سوى الانتهاكات اليومية ضد النساء ومجتمع الميم والأقليات المذهبية.

الترفيه سبيل الشرعنة

تهدف تلك الفيديوات إلى شرعنة حكومة طالبان، التي لا تزال لا تحظى باعتراف دولي حتى اليوم، بسبب المخاوف الدولية بشأن قضايا تعليم المرأة وحقوق الإنسان.

لكن في فيديو لجو حطاب، أحد أشهر اليوتيوبرز الرحالة العرب، والذي يتابع قناته على “يوتيوب” 11 مليوناً، يتغنى بإنجازات حكومة طالبان وسياساتها المنفتحة بنظره، وذلك بسبب إعطائهم له تصريحاً لاستخدام الدرون على أراضيها، ويقارنها ببعض البلدان العربية التي تمنع استخدام الدرون! ليختلق معايير غرائبية، وكأنه يقول إن استخدام الدرون هو معيار للتحضّر والتحرّر!.

تعزز فيديوات الرحالة العرب فكرة التصالح مع مفهوم الجهاد بطريقة ما، ولا سيما أنها جاءت بالتزامن مع أحداث غزة، التي هيأت بيئة حاضنة خصبة لدى الجمهور العربي للترحيب بهذه الأفكار، التي قد تقود بنظرهم إلى رفع المظلومية عن الشعب الفلسطيني، بخاصة أن جميع المجاهدين الأفغان الذين يظهرون في فيديواتهم يهتفون لفلسطين ويعبرون عن رغبتهم في القتال فيها.

ويتوافق محتوى هذه الفيديوات مع حملة سلطة طالبان الترويجية التي بدأتها عقب حصار غزة، بتشييد مسجد الملا عمر، الذي افتتحته حركة طالبان في أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، مع خطابات تُعبر فيها عن دعمها للمسلمين والقضية الفلسطينة؛ المسجد الذي يستنسخ معمارياً شكل قبة الصخرة في المسجد الأقصى في القدس، والذي شُيِّد على أعلى قمة جبلية في العاصمة كابول.

يعكس المسجد صورة رمزية للمقاومة الإسلامية الجهادية وتبعاتها، بصورة تجمع بين قبة الصخرة وأكبر علم لحكومة طالبان؛ صورة وثّقتها كاميرات الرحالة العرب ورافقتها تعليقات تشجّع على مشروع طالبان، التي يبدو أنها تعمل على استغلال قضية أهل غزة المحقة للترويج لأفكارها الظلامية.

من جو إلى جهاد

وللمفارقة، جو حطاب نفسه لم يسبق أن قدم خطاباً متطرفاً كهذا بفيديواته، بل كان في البداية حريصاً على تقديم نفسه كيوتيوبر من خلفية محايدة ثقافياً، بدليل أنه غيّر اسمه عندما أصبح يوتيوبر، واستخدم اسم جو بدلاً من جهاد على غرار مشاهير كثر يُشاركونه الاسم ذاته واستخدموا أسماء مستعارة (مثل الممثل السوري جهاد عبده الذي اختار اسم جاي).

يعود جو حطاب إلى اسمه الحقيقي، جهاد، في فيديوات  رحلته إلى أفغانستان، وسط إشادات مرشديه السياحيين، ويرتدي ثياب المجاهدين الأفغان، ليظهر بصورة مغايرة تماماً لكل ما سوّقه عن نفسه في الأعوام السابقة!

وبالمقارنة بين الفيديوات التي نشرها كل من جو حطاب وابن حتوتة من رحلتيهما إلى أفغانستان، نُلاحظ أن حطاب يُقدم لمتابعيه تقييماً يتوافق كلياً مع خطاب حركة طالبان الترويجي لحكومتها، فيكرر أثناء تصويره لمتاجر الأسلحة المنتشرة في الأسواق أكثر من متاجر البقالة والخضار، أن الأسلحة لا تُباع سوى للمجندين، وأن أفغانستان دولة آمنة، ليردد بذلك ما يُقال في فيديوات اليوتيوبرز الأفغان حرفياً.

شوارع أفغانستان مُكتظة بالرجال في فيديوات الرحالة، لكن لا أثر للنساء فيها. ينوه ابن حتوتة  للأمر وكأنه يذكر مشكلة بسيطة، إذ يقول: “للأسف النساء ممنوعات من دخول الحدائق العامة أو الأماكن السياحية حتى مع وجود محرم”.

ابن حتوتة… لا مشكلة إلا النساء

أما ابن حتوتة فيبدو أقل تملقاً من حطاب، وبدلاً من إقامته في فندق خمس نجوم يصعب تصديق وجوده في أفغانستان، نراه يتنقل بين أرجاء البلد ويزور الأماكن المهمّشة فيه ويستعرض جزءاً بسيطاً من معاناة الشعب الأفغاني، من دون أن يوجّه أي انتقادات الى حكومة طالبان.

يُشير ابن حتوتة إلى أن الحياة في ظل حكمها ليست سيئة إلى هذا الحد، باستثناء مشكلة النساء؛ ويلفت الى المسألة وكأن حياة النساء أمراً هامشياً لا يستحق الوقوف عنده كثيراً، فهو يقول ذلك وكأنه يقول إن الطعام شهي ولكن ينقصه ملح.

ما يصلنا من فيديوات ابن حتوتة، يفتح الباب أيضاً لتقبُّل حكومة طالبان، ولكنه على الأقل لا يُغالي بالمديح، ولا يُصوّر الحياة في أفغانستان كمشروع لجنّة على الأرض بعد التعافي من آثار التدخل الأميركي، كما يفعل حطاب.

يقترب ابن حتوتة في فيديواته من واقع المعيشة في أفغانستان اليوم أكثر، إذ يُصوّر المشاهد ذاتها للأسواق الشعبية التي تنتشر فيها الأسلحة كالأرز، ولا يُنكر أن شراء الأسلحة في أفغانستان أسهل من شراء تذاكر المواصلات وأنه متاح لجميع الرجال.

يُصوّر ابن حتوتة التفاصيل القميئة والمُثيرة للاهتمام، ويحاور باعة الكلاشنكوفات والآربيجيات ويناقش الجهاديين؛ النقاش يبدو ودياً، ربما لأنه يوتيوبر فلسطيني، ولأن القضية الفلسطينية يُتاجر بها هناك وتشغل حيزاً واسعاً من اهتمام الشارع الأفغاني.

فيديوات ابن حتوتة في أفغانستان لا تتخلى عن صبغتها السياحية، فيستعرض خلالها جمال الطبيعة هناك التي تبدو مميزة بالفعل، والأكلات الشعبية والفنادق الرخيصة مقارنة بالدولار، لتبدو أفعانستان وكأنها وجهة سياحية مميزة.

لكن في المقاطع التي يتجوّل فيها بالشوارع ويصوّر حياة الناس ويُجري معهم مقابلات عشوائية، نلاحظ الفقر والبؤس اللذين حلّا بالمكان؛ فالكثير من الناس يشتكون من البطالة، بمن فيهم الانتحاريون السابقون الذين لا يملكون حرفة أخرى سوء القتال، إذ اشتكى أحدهم من أن حالة الاستقرار التي أمّنتها طالبان في البلاد جعلته عاطلاً من العمل؛ الأمر الذي يشعره بالملل لعدم وجود حرب.

ولعلّ ما يميّز فيديوات ابن حتوتة أنه ذهب بها إلى الأماكن والقرى النائية في أفغانستان، لنرى المزارعين الذين يشتكون من المجاعات التي تحصل في قراهم خلال موسم الشتاء بسبب الصقيع، ونسمع شكواهم الخجولة بعد عدم التزام طالبان بوعدوها في تعبيد الطرقات التي توصلهم إلى العاصمة، ليبقوا محاصرين في البرد من دون طعام يسد رمق الجوع.

لا نساء في شوارع أفغانستان

شوارع أفغانستان مُكتظة بالرجال في فيديوات الرحالة، لكن لا أثر للنساء فيها. ينوه ابن حتوتة  للأمر وكأنه يذكر مشكلة بسيطة، إذ يقول: “للأسف النساء ممنوعات من دخول الحدائق العامة أو الأماكن السياحية حتى مع وجود محرم”.

لا يتم تداول المشكلة بشكل جدي على الإطلاق، وحتى عند توصيف أفعانستان بأنها وجهة سياحية، يشير باقتضاب الى “الذكور فقط”. الأمر الذي لا يستدعي أي شرح، فتكفي مُراقبة ما حدث خلال الرحلة لفهم ذلك.

تم إيقاف رحلة ابن حتوتة والتحقيق معه ساعة كاملة بسبب ركوبه سيارة فيها سائحة أنثى؛ فوجودها بحد ذاته أغضب مفتشي الجواجز في طالبان، على الرغم من التزامها بارتداء اللباس الشرعي الذي تفرضه طالبان على النساء، ولكن كونها امرأة في أفعانستان هو جريمة بحد ذاتها؛ ففيما يبدو أن العدو الأول لطالبان هو النساء،  وذلك يتوافق مع نهج الحياة هناك، إذ أصبح قمع النساء وقتلهن أمراً روتينياً.

يتم تغييب النساء ومشاكلهن بشكل كامل في فيديوات الرحالة، فحكومة طالبان التي وعدت باحترام حقوق المرأة بعدما عانت النساء من أهوالها خلال فترة حكمها السابقة للبلاد، والممتدة بين عامي 1996 و2001، لم تتحسن بها الأمور مثقال ذرة، بل باتت القوانين التي تتعلق بقمع النساء اليوم أشد بؤساً وأكثر صرامة؛ فالشغل الشاغل لرجال الأمن وحواجز التفتيش هو تهميش النساء ومنع الاختلاط بين الجنسين.

يضاف إلى ذلك منع النساء من مواصلة تعلميهنّ منذ تولت طالبان الحكم، وتم تحريم التعليم الثانوي والمدارس الدينية والتعليم الخاص على النساء، وتم تحديد سن 12 عاماً كحد أقصى لتعليم الفتيات.

لم يمنع  ما سبق النساء تماماً من المحاولة للخروج من هذه القوقعة، والتمرد على القوانين وإنشاء مدارس سرية لتعليم البنات؛ لتلقى هذه المدارس مصيراً أسود، إذ دُفع الكثير من الانتحارين إلى تفجير أنفسهم بتلك المدارس! إضافةً إلى ذلك، فُصلت النساء من وظائفهن في مختلف القطاعات الحكومية والخاصة، وطُلب منهن إرسال أقاربهن الذكور بدلًا عنهن، وحصرت طالبان عمل النساء في مهنتي تعليم الفتيات الصغار والتمريض.

وبحسب تقارير الأمم المتحدة، يتم توصيف انتهاكات طالبان بحق النساء بأنها جريمة سجن قسري. وفي سجن النساء الكبير، يجد اليوتيوبرز/ الرحالة العرب وجهة سياحية جيدة، ويقدمون النصائح للزوار بزيارة أماكن معينة وتجريب أكلات والكثير من الأشياء.

سَجن النساء كانت له عواقب كارثية على المستوى الاقتصادي في البلاد، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، لأن النساء العاملات كنّ في غالبيتهن المعيل الوحيد لأسرهن، إضافةً إلى الأضرار النفسية على النساء والفتيات وارتفاع نسبة الانتحار بينهن.

على الرغم من غياب البيانات الدقيقة من طالبان لحالات انتحار النساء ونكرانها تماماً، أظهرت دراسة أجراها “مركز أفعانستان للدراسات الوبائية” في ولاية هيرات، ونشرها العام الماضي، أن ثلثي المراهقات الأفغان أبلغن عن أعراض اكتئاب حاد، كما دقت الأمم المتحدة ناقوس الخطر بشأن تصاعد حالات الانتحار بين النساء العام الماضي.

لا شيء يمكن أن يجمّل الحياة في أفغانستان في ظل حكم طالبان، فكيف يمكن الترويج لدولة تُمارس حكومتها الإرهاب يومياً بحق شعبها، وتنتشر في شوارعها الأسلحة ورائحة الموت!