في معرض تَصفّحي لروزنامة الأيام العالمية، اكتشفتُ أن اليوم العالمي لمناهضة الختان قد أوشك. شجّعني ذلك على الحديث عن تجربة ختاني المختلفة، أو لنقُل غير الشائعة. لن أسرد في هذا النص تفاصيل دموية وعنيفة مليئة بالألم والدماء والدموع، على أهمية الالتفات إلى هذه التجارب وألمها، لكنني سأروي عن تجربةٍ مغايرة، تجربة تجري في البيوت دون أن يعرف عنها كثيرون، أو يعترفوا بوجودها كنموذج على طرق أخرى من العنف غير المباشر الذي يرافق هذه الجرائم.
كنت طفلة صغيرة ذات جسد فارع يُخفي صغر سني. كنت ابنة 7 سنوات أبدو وكأنني في الصف الأول الإعدادي مثلًا، لم تكن الكثير من عمليات الختان تُجرى على نحوٍ علني في الأجواء المحيطة بي بما يمكّنني من تمييز كونها جريمة. كانت هناك تلميحات فحسب، أنه «في الأسابيع القادمة سيأتي طبيب ويجري لك عملية ما»، مع إغراءات بإعداد أطعمة وحلويات أحبها.
مع اقتراب الموعد سألتُ أمي عن طبيعة العملية. لا أذكر الآن إجاباتها المتضاربة، والتي لم تساعدني على فهم أسباب العملية. اكتفتْ بإخباري أنني سأخضع لجراحة ما «تقيني من بعض الأمراض عندما أكبر»، مثلما يحدث مع حقن التطعيمات في المدرسة. لم أُكذِّب أمي، كنت متشككة ولكن لم أهتم، فقد كنت، كما أحب أن أنظر لنفسي، شجاعة وذات قوة تَحمُّل، لا أبكي مثل بقية الطالبات عندما آخذ حقنة في المدرسة أو شيئاً من هذا القبيل. لكن كيف ستجري هذه العملية؟ تارة تخبرني أمي أنها حقنة، وتارة تخبرني أنني سأخلع «سروالي الداخلي» وسيقطع الطبيب جزءاً من هذه المنطقة؛ كان الحديث يحاول إظهار الحدث على أنه أقل فجاجة من واقعه. كنتُ مصعوقة من الاحتمال، كيف سيقترب الطبيب بهذه السهولة من منطقتي الحساسة؟ ولكنها عادت لتقول لا، إني أمزح، بل هي حقنة. كانت أمي تبدل في حديثها بين الوقائع والأكاذيب، مع ذلك لم أكن خائفة أو مرتابة.
كان يوم ختاني أشبه بيوم عيد، على غرابته. أتذكره الآن؛ الكثير من الدلال والدلع، تناولنا على الغداء «فراخ بانيه»، أكلتي المفضلة التي طلبتُ طهيها، وحلويات نأكلها مساء اليوم وآيس كريم وخَيرات أخرى، وكان البيت نظيفاً نظافة الأعياد. أتى الطبيب. وهو يصعد السلّم أخبرتني أمي أن أخلع السروال، فوجئتُ باكتشاف كذبها عليّ طوال الفترة الماضية، وإدراكي أنّ شيئاً ما سيُقطع فعلًا من جسدي. لم يكن هناك وقت ولا مجال للانسحاب على كل حال، فقد قُضي الأمر، وكانت لديَّ قناعة أن أهلي يدركون مصلحتي. كان الطبيب مرموق المظهر يحمل حقيبة فخمة، تحدَّثَ معي بلطف وأبي إلى جانبه، سألني عن اسمي وماذا تناولت اليوم. كان يحدثني بلطف بالغ هو وأبي، أعطاني حقنة ولم يستغرق الأمر أكثر من 3 ثوان لأقع من البنج تماماً، وأنام.
أستيقظتُ فرأيت الكثير من أقاربنا في المنزل، جدتي وعماتي وخالاتي والكثيرين. كلُّ هذا الاهتمام من أجلي؟ هذا الدلع والطعام والحب لي؟ لم أدرك حجم ما يحدث، حتى أنّ الأمر بدا لطيفاً من منطلق «مجنون اللي يلاقي دلع وميدَّلَّعش»، وأنّ الأمر لم يتجاوز مجرد دوخة من البنج أفقت بعدها بساعة، مع كمٍّ من الاهتمام والحفاوة بشجاعتي.
انتهى اليوم وانتهت الدوخة في رأسي، واستيقظتُ لأدخل الحمام وأُفاجأ برؤية قطعة شاش وقطن في منطقتي الخاصة. لم أكن من الفتيات الرقيقات اللاتي يخشين من صرصار مثلاً، كان «قلبي ثقيل» وشخصيتي قوية فلم أَهَب المنظر على غرابته. اتَّصلَ أبي بالطبيب ليسأله عن قطعة الشاش، فأخبره بأنني أستطيع إزالتها، فأزالتها لي أمي لأدخل الحمام دون أي مشكلة في التبول.
من المفارقات التي أذكرها الآن، هي حديث أهلي وسط أهالٍ آخرين عن هذه التجربة كدليل على تحضُّرنا كعائلة، فالختان لدينا يتم على يد طبيب وبطريقة ناعمة وهادئة، ولا يقتطع جزءاً كبيراً من البظر مثل «المتخلفين الذين يشوهون أجساد بناتهن بشكل فج». عندما أتذكّر مقولات كهذه الآن، تبدو لي شبيهة بمقولات رجلٍ موهوم بأنه غير مُعنِّف كونه يكتفي بشتم زوجته دون أن يضربها.
أذكر الآن كيف أن قطعة «البظر» التي قُطعت من جسدي كانت بحجم الزبيبة، أتذكرها جيداً، لُفَّتْ بقطعة شاش على يدي لمدة سبعة أيام، وبعدها رميتُها في ماء النيل، كما قيل لي، بشكل يشبه الطريقة التي أودّع بها أحد أسناني.
في الأيام التالية للختان كانت التفاصيل لا تقلّ أهمية عمّا حدث في اليوم الأول، لم يتوقف أبي أبداً عن شراء الهدايا والمعلبات والأشياء اللطيفة، وصار يُميُّزني عن أخوتي إلى حدٍ دفعهم إلى الغيرة. لم يكفّ الأقارب عن زيارتنا بل وتنقيط أمي (إعطائها نقوداً) كما يحدث في الأفراح تماماً. باختصار كانت هذه الفترة فترة عيد ودلال لم أرَ في حياتي مثلها حتى الآن، ومن أكثر الفترات التي وجدت فيها اهتماماً وحُبّاً كطفلة. علمتُ صدفة أن أبي كان يبكي عليَّ خارج الغرفة في الوقت الذي تم إجراء فيه هذه العملية. في عمري الصغير آنذاك، لم يكن لدي إدراكٌ كافٍ لمعرفة أن ما يجري هو تشويه لأعضائي التناسلية. لم أدرك ذلك لفترة طويلة حتى بعد العملية، بل كنت أنظر إليها كذكرى جميلة في حياتي.
لم يكن ما حدث معي أمراً نادراً وخارجاً عن المألوف، بل شاركتني في التجربة كثيرات ومنهن قريبات لي، ممن نلن الاهتمام والأموال كتشجيع على الخضوع للعملية. لم تكن أي منا مدركة تماماً لما تعنيه هذه العملية التي تجلب لنا كل هذا الحب والسعادة مرة واحدة، لم يكن من الصعب أن يتم الضحك علينا، رغم أن إحدى بنات خالاتي صرخت في بداية الأمر ومع الحقنة، وتم التحايل على الأمر بأقوال مثل «شوفي بنت خالتك كانت ساكتة ازاي»، وغيرها من التفاصيل التي كنا نتشاركها دون أن نعرف أن ما يجري هو انتهاك واضح وصريح لأجسادنا.
لفترة طويلة من حياتي، لم أكن مهتمة بهذا الأمر، رغم أني كنت أتعثر ببعض الإعلانات في التلفزيون، والتي تفيد بأنّ الختان أمر خاطئ وضار. أذكر من ردود الفعل العائلية على إعلانات شبيهة أنّ عمتي كانت تقول بلهجة حازمة، ربما لتوصِلَ لي رسالة ما، بأن هذا كلام «مايع وفاسد»، ولم تكن لدي الجرأة لأجادلها ولا الوعي لأرفض كلامها. كذلك أتذكّر معلمتي العزباء في المدرسة، التي أخبرتنا: «إن أتاكم في المنهاج سؤال عن الختان. لنقل أنه عادة سيئة وحسب»، لكنها أقسمت بأغلظ الإيمان أنه عفّة للبنات وأمر مهم وجيد. لم أكن أجادل ولم أهتم بالأمر، فباستثناء الإعلانات المذكورة التي يتم التندُّر عليها، لم يكن هناك جو من الانفتاح الثقافي، ولا وصول إلى الإنترنت كما هو الحال الآن للاطلاع وإدراك حقيقة ما يحدث، خاصة أننا في الصعيد، ومن يُنتج هذه الحملات التوعوية هم «أهل بحري أو أبناء العاصمة» الذين يشيع عنهم في الصعيد أنهم أقل نخوة ورجولة منا. لم يكن لذاتي الصغيرة إدراكُ هذه الأمور ببساطة، كان لدي برود وعدم اكتراث بكل ما يحدث، ورغبة في إرجاء الأمر إلى حين أتزوج.
بعد سنوات من النضج الفكري وإدراك حقيقة الأشياء، بل وموت أبي كذلك، أدركتُ حقيقة أن ما جرى لي هو تشويه لأعضائي التناسلية، بحجة تقليل شهوتي ومن ثم الحفاظ على عفتي؛ حقاً؟ ما هذا الغباء؟ أُصابُ بالغضب الشديد كلما فكرت بذلك أو مرت ذاكرة التجربة أمامي، ولا أعتب على المجتمع أنّ فيه أفكاراً كهذه، بل أعتب على والديَّ كيف أمكنهما أن يتبنيا أفكاراً كهذه؟ فأبي رجل متعلّم ومختلف كما يفترض، أحقاً ظنوا أنهم إن لم يشوهوا جسدي فستبتلعني الرذيلة والشهوة؟ سأكون امرأة غير منضبطة ترغب في أن تضاجع الرجال في أي مكان؟ بعيداً عن أنني لم أر أي نموذج من هؤلاء النساء في حياتي حتى الآن، وبعيداً عن كون الشهوة تتمركز في العقل كبداية، قبل الجسد. كان غضبي كبيراً، وكنتُ أحاول أن أتحاشى سماع الأمر عندما تتحدث فيه أمي أمام أختي. سألتْها أختي، التي لا تدرك ما أدركه، لماذا فعلتم ذلك؟ فأخبرتها أن أبي هو المُتحكّم في الأمر، وأننا «فعلنا ذلك من باب شيوعه وكونه عاده تفعلها أغلب العائلات». لم يشكّل فرقاً كوننا أبناء مدينة لا ريف كما كان المرء ليظن، مع العلم أن عدداً كبيراً من صديقاتي لم يتعرضنَ لهذه التجربة مثلي، ممّا زاد غضبي. حنقتُ أكثر عندما عرفت أن متعتي الجنسية ستتأثر بهذه العملية والقطع في جسدي، كنتُ أغضب بشكل جنوني من هذا الأذى الذي تم بهذه البساطة والتساهل، وبمباركة من الجميع دون أن يسأل أحدهم نفسه ولو من باب الفضول سؤالاً منطقياً: أحقاً سأكون فتاة صالحة نتيجة هذا التشويه؟ أم نتيجة تربيتكم؟
كان من المؤلم حقاً أن يرغب مجتمعي في حرماني من اللذة عبر تشويه جسدي، أنا وفتيات أخريات، لا لسبب سوى لأن «الجميع يفعلون ذلك». السماع عن عمليات ترميم الختان محدودة الانتشار وسعرها باهظ، فكان هذا عامل غضبٍ إضافي. كنتُ أغلي من كل هذا الغضب الذي لم يعلم عنه أحد شيئاً، هل أضطر لدفع مبلغ كهذا لإصلاحٍ فعل ارتكبه أهلي لا يخلو من أنانية؟ ثم في النهاية قد أشعر باللذة أو لا. دفعتني هذه الأفكار والمشاعر كلها لتجنب التفكير في الأمر، الذي يظهر لي بالصدفة أو أسمع عنه.
استمعت خلال حياتي إلى الكثير من تجارب النساء اللواتي خضعن لهذا الفعل، وهالني مدى شيوع الاعتقاد الأصيل بأهميته وبكونه «ضرورة تجميلية». على مستوىً آخر كنتُ أسمع عن مدى التشدد الحكومي المتمثل في ملاحقة الأطباء ممن يجرون عمليات الختان والقبض عليهم، وراعَني التأمُّلُ في ذلك المدى الذي يمكن أن يصل إليه الأطباء والأهل معاً في التخفي ومواجهة عواقب قانونية، بدافعٍ من احتقار رغبات النساء وأجسادهن. عزمتُ على العمل لمواجهة هذه الظاهرة بأي طريقة، في مقابل زمنٍ أُجبرت فيه كما غيري على الانصياع لفعلٍ جرمي، آملةً في إنقاذ نساء أخريات وإنقاذ حقهنَّ في المتعة.