تتقاطع في معرض فني سيقام في مدينة زيوريخ السويسرية نتاجات ثلاثة من أهم مبدعي سورية، وهم الروائي الراحل قهرا وكمدا خالد خليفة، والشاعر الذي اغتصب نظام الأسد أحلى أيام حياته في السجن والأخرى في المنفى فرج بيرقدار، والثالث الشاعر والفنان التشكيلي الذي عاش القمع والتهميش المؤدي للمنفى، السوري الكردي دلدار فلمز.

عوالم “الخال”

فاجأ موت الروائي والسيناريست السوري خالد خليفة أصدقاءه ومحبيه الكثر، فالرجل ممتلئ بالحياة ومفعم بالحيوية ينقل عدواها أينما حل وصاحب خيارات أدبية وحياتية وسياسية متميزة، فـ”الخال”، كما يناديه الخلان، واضح بمعارضته ديكتاتورية النظام، ولكنه قرر البقاء في دمشق. يعرف تفاهة التلفزيون، ولكنه كتب العديد من سيناريوهات المسلسلات والأفلام. أصحابه من اليمين واليسار ومن مختلف التيارات والأعراق والمناطق والمذاهب، مع تعلق خاص بمدينة حلب وريفها، التي ولد وترعرع فيها وكتب عنها أهم الروايات التي روت مأساتها ومحنتها وجرح كبريائها بدءا من “مديح الكراهية”، مرورا بـ”لا سكاكين في هذه المدينة”، وانتهاء بـ”لم يصل عليهم أحد”.
لم يكن خالد خليفة رغم بروز اسمه في عالم السرد الروائي منشغلا بكل وقته وحواسه بهذا العالم، فالرجل كتب الشعر ثم مزق ما كتبه، وأبو الخل ماهر في فن الطبخ ولا سيما صناعة المخللات، وهو متعلق بجمع موسيقى المنطقة التي عاش فيها، وهي مزيج قومي وديني من عرب وأكراد ومسلمين ومسيحيين وأيزيديين.

الكاتب السوري خالد خليفة

خالد خليفة فناناً تشكيلياً 

ترك خالد خليفة أمنية صارح بها أصدقاءه أن يتحول من روائي وكاتب لفنان تشكيلي محترف وبدأ بالفعل بتجهيز معرضه الفني الأول وحجز صالة عرض له في البحرين، لكن الموت عاجله قبل ذلك. هذه الأمنية حققها له صديقه الكردي السوري التشكيلي دلدار فلمز إذ يقيم دلدار معرضا في زيوريخ السويسرية، يفتتح في 22 فبراير/شباط الحالي ويستمر حتى 27 منه، يحيي فيه ذكرى صديقه خالد خليفة حيث يقدم في المعرض فيلما وثائقيا بعنوان “خالد خليفة في زيوريخ” يوضح رغبته تلك. كما سيعرض لوحة من لوحات خالد خليفة الثلاثمئة التي رسمها خالد أثناء فترة كورونا في سورية ومن ثم عند صديقه دلدار في سويسرا.

لوحة للراحل خالد خليفة (العربي الجديد)
لوحة للراحل خالد خليفة (العربي الجديد)

التشكيلي والشاعر

يعرض الفنان السوري الكردي دلدار لوحاته التي استلهمها من مقاربته وتأملاته في ديوان “مرايا الغياب” لصديقه الشاعر السوري فرج بيرقدار، الذي يعيش الآن في منفاه في استوكهولم بعد أربعة عشر عاماً قضاها كسجين سياسي في بلاده.
من يقدم للوحات دلدار عن فرج بيرقدار؟ إنه صديقهما خالد خليفة اذ يكتب قبل رحيله أن ألوان أرض سورية وغيابها تتجلى في لوحات دلدار وأشعار فرج.

غلاف ديوان مرايا الغياب للشاعر فرج بيرقدار
غلاف ديوان مرايا الغياب للشاعر فرج بيرقدار

خالد يكتب عن فرج ودلدار

“حين كنت شاباً صغيراً، أردت أن أصبح كاتباً، في مرحلة مبكرة قرأت قصائد ديوان فرج بيرقدار الأول: “ما أنت وحدك” وتداولته مع رفاقي الكتّاب الشباب خاصة اليساريين من أبناء جيلي، صدرت بعد ذلك قصيدته “جلسرخي” في كتاب صغير عام 1981، تبادلناها كمنشور سري، خاصة وأن القصيدة تحتفي بالشاعر الذي أعدمه جهاز السافاك في نظام شاه إيران. لم يطل الوقت حتى وقع فرج بيرقدار في الأسر، واعتُقِل مع رفاقه ليقضي أربع عشرة سنة في سجن ظالم عقاباً على قول “لا” في وجه النظام، رفعنا كأس شاعرنا المعتقل في أغلب سهراتنا، هذا ما كنا نستطيع فعله، وأعدنا قراءة قصائده، رغم أننا لم نكن منتمين ولا حتى نفكر في الانتماء إلى أي حزب سياسي، كنا مجموعة كتاب شباب يساريين هوسنا الكتب والفن ولدينا طموح واحد أن نصبح كتاباً. أذكر لقاءاتي مع فرج بعد الإفراج عنه في أمسيات وأماكن مختلفة من العالم. ما زال رفيقي الذي أنتظر منه الكثير. ما زالت صداقتنا التي نمت في أوقات متباعدة تحمل ذكريات عاطفية لا يمكن لها أن تنتهي. دوماً لدينا كلام معلق نتركه وراءنا.

الشاعر فرج بيرقدار

حين وصلت إلى زيورِخ منتصف شهر كانون الثاني/يناير تلقيت مكالمة من دلدار فلمز الصديق الغائب، ببساطة أخبرني أنه في زيوريخ وقريب من منزلي، إنها المفاجآت الحلوة التي أنتظرها في كل مكان. التقينا من جديد كأنه لم يمض أكثر من عشر سنوات عن آخر لقاء لنا في دمشق. ما زلت أذكر دلدار الشاب القادم من الحسكة حاملاً رائحة حقولها على جلده إلى دمشق، كان مفترقاً عن أبناء جيله، يغرد خارج سربهم، يحمل ألوانه الترابية، ألوان حقول الحسكة معه وينثرها أينما حل. ما زلت أتذكر لوحاته الأولى التي رسمها في دمشق، أتذكر فرادتها، وحيرتها الأسلوبية التي ينشدها، كان الجميع غارقاً في الألوان الحارة والزاهية، بينما دلدار كان غارقاً في ألوان التراب الباردة.
يرسم دلدار قصائد فرج بيرقدار في ديوانه “لوعة الغياب” صاحب الحكاية التراجيدية السورية الخالصة، الذي كتبت قصائده في السجن وهُربت إلى خارجه، والذي صدر للمرة الأولى عام 2005 بعد رحلة طويلة من المصادرة والمنع.

لوحة الحياة من فضة والموت من ذهب للفنان دلدار فيلمز (العربي الجديد)
لوحة الحياة من فضة والموت من ذهب للفنان دلدار فيلمز (العربي الجديد)

هذه الشراكة الإبداعية بالنسبة لي حدث شخصي، يجمع صديقين ويعيدني إلى الذكريات التي لم تتركني بعد، يعود دلدار إلى التجريب الذي هو حلم البقاء بالنسبة لأي رسام، يرسم بمواد ثقيلة، بالطين ومواد مختلفة يخط لوحاته على قماش سميك وألواح خشب، بحنينه إلى تلك الحقول المفتوحة يعيد خلق عوالم قصائد فرج بيرقدار الذي لم تغادره سورية، ولن تغادره رغم عيشه بعيداً عنها منذ عقدين، رغم الأسى الذي عاشه وعشناه معه كسوريين.
لا يمكن لنا إلا ملاحظة قوة التعبير في لوحات دلدار فلمز هذه، بألوانها الأقرب إلى البني، واختلاطها مع كل ما يذكرنا بتلك الأرض البعيدة التي تحفل قصائد فرج في التغني بحزنها ووحدتها وغياب أحبابها عنها. لكني دوماً أبحث عن المعاني، كيف سيرسم دلدار هذه القصيدة:
“قلبه جرس
وجسده كنيسة
وعيناه مغمضتان
على امرأة
ترتدي حزنها
وتقيم لعودته
قداساً من الدموع”
كيف لنا رسم الغياب، خطوط اللوحات النافرة، عوالمها المفاجئة تخبرنا عن نقلة جديدة لدلدار الرسام أيضاً الذي ما زلنا ننتظر منه الكثير كشاعر ورسام”.

اهداء من خالد لصديقه دلدار (العربي الجديد)

فرج يكتب عن رسومات دلدار لمرايا الغياب

يقدم الشاعر فرج بيرقدار مشروع صديقه دلدار برسم لوحاته المستلهمة من ديوانه مرايا الغياب ويركز على حضور الغياب في حياة السوريين: “منذ الانقلاب العسكريّ الذي قام به الطاغية حافظ الأسد عام 1970، بدأت سورية تأخذ شكل معسكر اعتقال، تتناسل في داخله سجون ونقاط اعتقال وزنازين لها وظائفُ أكثر تخصصاً، وبالتالي أكثر قدرة على الترويض أو التحطيم وتأسيسِ الغيبوبة ونشرِ الغياب. وإذا كان المنفى صورةً للغياب، فإن السجن صورةٌ للتغييب الذي هو غياب أقصى، لا يتفوّق عليه سوى الموت بوصفه غياباً نهائياً. عاينتُ وعانيتُ التغييب والغيابَ في سجون الأسد لأربعةَ عشرَ عاماً، وحين حاولت مقاربة ذلك الغياب في قصائدي، اكتشفت أني لم أكتب سوى عن ظلاله في المرايا، وهكذا نشرت تلك القصائد تحت عنوان “مرايا الغياب”.
لاحقاً أخذت المرايا تصفو، وصرتُ أحسّها وأرى فيها ما لم أكن أُحسّه وأراه حين كتابتها. للمصادفة، وللمفارقة أيضاً، صارت مجموعة “مرايا الغياب” أكثرَ انتشاراً وتداولاً وترجمةً وحتى غناءً، وبالتالي أكثرَ حضوراً من معظم ما كتبت، غير أن حضورَها الأقصى وتجلّياتِها الأبعدَ والأعمقَ والأكثرَ انخطافاً وارتجاجاً لم يكن من خلالها هي أو من خلالي أنا، بل من خلال استدراجها إلى كمائن لوحات الفنان التشكيلي دلدار فلمز، الذي أعاد قراءةَ واستقراءَ مجموعة “مرايا الغياب” ضمن مشروع فنّيّ تتكامل فيه لوحاته حتى صارت هي صوتَ الغياب، وغدتِ القصائدُ نوعاً من الأصداءِ، إن لم أقل الإصغاء.

لوحة السجين 13 للفنان دلدار فيلمز (العربي الجديد)

أحياناً تبدو اللوحات مكتظةً بموتٍ مُشرِق أو مضيء، وأحياناً مسفوعةً بشهيق جمرِ الغيابِ وزفير رماده، كما لو أنّ الغياب صراعٌ أو عناقٌ بين الموت والحياة، وفوق كل ذلك هناك تحدّيات في تكويناتِ وتشكيلات اللوحات وموادّها وتكنيكها. وعلى الرغم من الحجم الكبير لبعض اللوحات فإنها تنطوي على إلماحات وتلميحات وملامح أيقونية.
هي سلسلة لوحات تحرِّك الكوامن، وتستثير ما ينطوي عليه حالُ الغياب من طبقاتٍ وأضداد وأزمنة مطوَّحةِ على أنفاق وآفاق وعتماتٍ وأضواء. لوحاتٌ تقيم حواراتها مع موضوعها “الغياب” ببساطة جارحة الدلالات والجماليات والرموز المفضية إلى جعل الغياب حضوراً لغياب أبعدَ وأكثرَ عمقاً واجتلاءً لمرايا الزمان وأقفالِ المكان وتواطؤِ ما بينهما من سكاكينَ ومفاتيح، وانعكاسِ وجوه المعتقلين وهواجسِهم على تلك المرايا، وضيقِ التنفَس داخلَ ما وراءها من زنازينَ مكويةٍ ببريق الدمع وبروقِ الإرادة، ومعجونةٌ جدرانها بأجساد المعتقلين. لوحاتٌ تتجرأ على مزج طين الإنسان بطين الأرض، لتتجلّى بهما ناطقة ونابضة بالحياة.
هكذا يحضر الغياب في هذه اللوحات كما لو أنه ظلالٌ مخبوزةٌ في أفرانٍ تعيد تشكيله أو تنفي معناه وتدعوه إلى أن يتبنّى نقيضه.

لوحة من معرض دلدار فليمز المستوحى من ديوان مرايا الغياب
لوحة من معرض دلدار فليمز المستوحى من ديوان مرايا الغياب (العربي الجديد)

قد ينطوي كلامي ظاهرياً على قليل أو كثير من الغموض والتناقض، ولكنه في صميمه ليس كذلك. ألم يكن الغياب حاضراً معنا دائماً، رغم غموضه دائماً، طوال سنوات الاعتقال؟ إذن لا يغيب الغياب إلا ليحضر في هذه اللوحات، كما كان في القصائد، ولكن على نحو أكثر اكتظاظاً وتجريحاً وإفصاحاً”.