شاعرة وصحافية وكاتبة ومترجمة وأستاذة جامعية، وناشطة ثقافية وإعلامية جذابة تنير شاشات التلفزة، وأول امرأة تتولى الصفحة الثقافية في جريدة “النهار”؛ إنها جمانة حداد التي أسست مجلة “جسد” في سنة 2009 فأثارت موجة عاتية من التقريظ والتعريض، حتى أن الأدمغة المضروبة والمخروبة منعتها من دخول البحرين في آذار/ مارس 2015. وفي سنة 2018 كادت جمانة حداد أن تصبح نائبة عن الشعب في مجلس النواب اللبناني لولا التلاعب في نتائج الانتخابات، وهي تتكلم ست لغات غير العربية. ومع أن الكذب في عمر النساء هو أكثر الأكاذيب شيوعًا، إلا أن جمانة حداد تصرّ دائمًا على الإفصاح عن عمرها الحقيقي (مواليد 1970). وخلال نحو ثلاثين سنة من معاركة الكلمات أضاءت جمانة نحو عشرين كوكبًا؛ تسعة دواوين شعرية، وخمسة كتب في النثر، وأربعة كتب مترجمة. ولعل أشهر مؤلفاتها “بنت الخياطة” (رواية، 2018) و “دعوة إلى عشاء سري” (شعر، 1998)، و “لم أرتكب ما يكفي” (شعر، 2013)، و “عودة ليليت” (شعر، 2014)، علاوة على “هكذا قتلت شهرزاد” (2009) و “سوبرمان عربي” (2012). أما اعترافاتها الجريئة جدًا فقد احتواها كتاب “وصايا شهرزاد الأخيرة” (بيروت: دار نوفل، 2024، 243 صفحة) الذي يتضمّن أربع عشرة وصية في الحب والجنس وإمتاع الذات والبغاء والتحرش والأمومة والسياسة واللغة والعمر وغير ذلك، أي أنها زادت على الوصايا العشر التي للنبي موسى أربعًا. وتتخلل هذه الوصايا اعترافات شجاعة جدًا تندرج في سياق الجرأة على الذات، وتعرية النفس المتلبسة بـِ “الآثام”، ولا سيما تجارب الصِبا المحرِجة، خصوصًا أن عدم البوح هو المذهب السائد في تراجم النفس الذي يحجب هواجسها. وتعيدني اعترافات جمانة حداد في وصاياها هذه إلى اعترافات القديس أوغسطين واعترافات جان جاك روسو ويوميات أندريه جيد، فضلًا عن اعترافات إدوارد سعيد في كتابه “خارج المكان” (التلصص على نساء العائلة- 2000)، واعترافات ليلى عسيران في “شرائط ملونة من حياتي” (التحرش في طور الطفولة – 1994)، واعترافات محمد شكري في “الخبز الحافي” (العنف والجوع والجنس- 1982).
مثل آلهات الإغريق
جمانة حداد في وصاياها للمرأة العربية رائعة ومدهشة، وتلوح للخيال مثل آلهات الإغريق اللاتي تمردن على الإله الأكبر، وشرعن في إغاظته والتشكيك في قدرته. وفي هذا الكتاب تكتب جمانة بعفوية ومرح، فلا تصوغ عباراتها أو تبني عمارتها الفكرية استنادًا إلى أي منهج بحثي، بل إلى الحياة اليومية السائدة في المدن العربية وقرى جبل لبنان؛ فهي تتحدث عن قهرمانات العائلات اللاتي يدربن الفتاة على كيفية الإيقاع بالرجل في حبال العشق والاحتفاظ به، وجعله متيّمًا ومهووسًا بها لأطول وقت ممكن (ص 16). والطريقة المضمونة والمجربة لهذه الغاية هي تعذيب الرجل وعدم إظهار أي مشاعر له أو الاهتمام به والتأفف منه. وحكمة القهرمانات في هذا الميدان هي: تريدينه؟ تجاهليه. أي اجتذبيه بالتمنع، مع أن الجميع يحفظ المقولة السارية في الأشداق والأفواه: “يتمنعن وهن راغبات”. وتنطبق هذه المعادلة على الرجل أيضًا؛ فكلما أمعن الرجل في إهمال المرأة ازدادت تعلقًا وولعًا به. وتسمي جمانة حداد هذه الحال “مراهقة عاطفية” قد تدوم أحيانًا طول العمر إذا لم نبادر إلى معالجة جذورها (ص 18). هنا أود أن ألتفت إلى قصة “المعالجة” هذه؛ فلماذا نعالج جذورها أو فروعها أو أغصانها؟ لندع مسالك الحياة كما هي لأنها لا تسير على درب واحدة. وجميع الدروب مشروعة في مسائل الحب والغرام والهوى.
ومن نوافل الكلام القول إن الكتمان هو الغالب على كتب السيرة أو الكتب التي تقترب من السيرة أو التي تشتبك معها في بعض جوانبها. وقلما وقعنا على اعترافات تتفلت من سلطان الامتثال والانقياد، وتتجرأ على ما هو مكتوم ومتوارٍ في تلافيف النفس البشرية، كما فعلت جمانة حداد في اعترافاتها التي تسخر فيها من نصائح الأمهات ومجرباتهن الساذجة مثل “كوني مثيرة بما يكفي لتهيجي شهوته، لكن لا تمارسي الجنس معه كي لا يظن أنك سهلة أو ساقطة” (ص 21). وهذه النصيحة القاعدة لا تصمد، على الإطلاق، أمام نداء الجسد الأنثوي حتى في أكثر المجتمعات تزمتًا. أما التربية فهي خلاف ما يجري في الخبايا والزوايا؛ فالفتاة في المجتمعات العربية، وغير العربية أيضًا، تُدرّب كي تكون بلا أعضاء جنسية، وهذا محال لأنه يعاكس الطبيعة وشهواتها. فمن جهة أولى تُحاط الميول الجنسية للفتاة بحائط من الإثم والتنفير، وتُلقّن، من جهة ثانية، ضروبًا من السلوك كي تكون أداة للجنس أولًا وأخيرًا. أي أنها تُحذّر باستمرار من الرجال، وتُفرض عليها العفة، ثم تُدرّب على الإغواء: يريدونها بلا جنس قبل الزواج كي تصبح جنسًا خالصًا بعده؛ أن تكون عذراء ملتصقة الساقين قبل الزواج، وزوجة مفتوحة الساقين بعد الزواج؛ أن تكون صقيعًا لتبقى عذراء، وأن تصبح لهبًا لتكون زوجة. وفي جميع الأحوال، فإن الحياة تخترع مخارج كثيرة للتملص من تلك القيود والتحاريم ذات الطابع الديني والذكوري في المجتمعات التقليدية.
إمتاع الذات
جمانة حداد، في الحياة الاجتماعية اليومية، شخصية قوية وجامحة وغير قابلة للترويض، وهي دائمًا متقدة ومستفِّزة ومجابِهة (ص 56 و 60)، لكنها، على سرير الغرام، تصبح خجولة ومرتبكة ومعقودة اللسان وبكماء، وغير قادرة على إضرام الحرائق (ص 60). تقول: “ما كان يستثير تفكيري يتناقض مع شخصيتي النسوية (…). فالخضوع هو الذي كان يثيرني فعلًا” (ص 65). وهنا، تظهر علائم المعاكسة أو التضاد بين الذات الاجتماعية والذات المستترة في الزوايا الحميمة. وفي اعتراف فجائي تضيف: “أفضل جنس اختبرته على الإطلاق هو ذاك الذي مارسته مع نفسي” (ص 69)، وهي تصف “إمتاع الذات” بـِ “الممارسة الرائعة” (ص 49)، و”النشوة الصافية” و”الإحساس الرائع المسكر” و”الدوار الذي يجاور الجنون” (ص 56)، و”الطوفان المقدس” (ص 57).
فرمت جمانة ثلاثة أزواج، وحظيت بالعديد من العشاق، وما برحت تتلظى وتردّد: “لطالما احتجتُ إلى أن أحترق لا أن أشعر بالدفء فقط” (ص 85)… وكنتُ “أريد الحب وأريد الجنس بالقوة نفسها” (ص 38). إنها اعترافات لم تتجرأ عليها أي كاتبة عربية قبلها. وتعرف جمانة حداد، بل تعترف، أن العلاقات الحميمة ليست عمليات ميكانيكية تبدأ من النقطة A ويجب أن تصل إلى النقطة Z. فالعلاقة الحميمة ليست مجرد آليات من المطاوعة والمداومة والقيام والقعود والاضطجاع حتى يبلغ العاشق الوطر. فالعلاقة الغرامية علاقة مركّبة من عناصر متعددة متداخلة ومتخارجة في آن كالحب والانجذاب والانسجام وصعوبة الاستغناء عن الشريك والشعور بالاطمئنان معه، الأمر الذي يؤدي إلى التخلص من ثقل الوحدة والسأم، علاوة على الإحساس بمشاعر النعيم جراء التشارك في شؤون الحياة اليومية في المنزل، ثم، أخيرًا، الانجذاب الجسدي على سرير الغرام الذي تعقبه العلاقة الجنسية المحض. وهذا كله لا يمكن، في أي حال من الأحوال، أن يُختزل إلى نشاط جنسي خالص غايته إشباع عنصر واحد من العناصر المركّبة للعلاقة بين الرجل والمرأة، أي تفريغ التوتر الحيوي بالجنس، وهو ما يحوِّل الشريك إلى أداة استعمالية قابلة للاستبدال عند أول سأم.
الحرية والنسوية
جمانة حداد نِسْوية وتدافع عن الحركة النِسْوية ومبتكراتها الفكرية، وترفض اتهام النسوية بأنها قوّضت الحب بين الرجال والنساء، وعمّقت الهوّة بين المرأة والرجل، وحوّلت المرأة كائنًا متمردًا غاضبًا خصاميًا يخافها الرجل ويحاذر التواصل معها. وهي ترفض الاتهام الموجّه إلى النسوية بأنها أبعدت المرأة عن أولادها، وساهمت في تفكك العائلة، وجعلتها فاسقة جنسية وذات أخلاق متدنية (ص 26). ولا تكتفي الكاتبة بذلك قط، بل عمدت إلى تفنيد كلام البعض على أن النسوية مبنية “على كراهية الرجل، وتتطلب إقصاء الرجال، كل الرجال من حياتنا (…). وثمة من يخلط بين النسوية والمثلية، فيعتبر أن العلاقة النسوية الحقيقية هي تلك التي تطبقها النساء المثليات عبر استغنائهن تمامًا، عاطفيًا وجنسيًا، عن الرجال” (ص 90). ونقيضًا لهذا الغلو ترى الكاتبة أن “النسوية تعني الإيمان بمبادئ الكرامة والتساوي في الحقوق والفرص لكل إنسان، والنضال في سبيل هذا الإيمان” (ص 76). ولي في هذا المقام كلام: فالإيمان بمبادئ الكرامة والمساواة في الحقوق وفرص العمل ليس هو النسوية وحدها على الإطلاق، إنما هي مبادئ إنسانية عامة وقديمة، فيما النسوية حركة حديثة عملت وتعمل على تغيير النظام الاجتماعي وإعادة بنائه على أعمدة جديدة تتخطى في سقفها شعار “تمكين المرأة” إلى شعار He for She. وبحسب معرفتي، وهي ضئيلة في أي حال، فإن الحركة النسوية اليوم هي طور جديد من أطوار حركة تحرير المرأة التي بدأت تويجاتها تظهر في القرن التاسع عشر، الأمر الذي يعني أن النسوية شيء وتيار تحرر المرأة شيء مختلف وإن كانت هذه العصا من تلك العُصية.
“قلما وقعنا على اعترافات تتفلت من سلطان الامتثال والانقياد، وتتجرأ على ما هو مكتوم ومتوارٍ في تلافيف النفس البشرية، كما فعلت جمانة حداد في اعترافاتها التي تسخر فيها من نصائح الأمهات ومجرباتهن الساذجة”
لقد نجحت حركات تحرير المرأة Women’s liberation movements في انتزاع المطالب التي رفعتها، وكان للرجال المتنورين شأن كبير جدًا في إنجاز تلك المطالب التي يمكن ايجازها بالمساواة واكتساب المرأة حقوقها السياسية (الحق في الانتخاب والترشح للمناصب العليا)، وحقوقها الاجتماعية (الحق في الطلاق والمساكنة والإرث وحضانة الأطفال)، وحقوقها الفردية (الحرية في الزواج والحب والاجهاض والحمل من دون زواج)، وحقوقها الاقتصادية (المساواة في الأجر مع الرجل). لكن الحركة النسوية Feminism فشلت، حتى الآن، في تحقيق كثير من مطاليبها لأن الرجال المتنورين وقفوا منها موقف الحذر والريبة والرفض بعدما اتخذ بعض أجنحتها موقف الكراهية للرجال في سياق إعلاء شأن الهوية الأنثوية، فتحول الأمر إلى صراع بين الرجل والمرأة، وصار التاريخ البشري تاريخًا لهيمنة الذكر على الأنثى، ولمحاولة الأنثى التحرر من هذه الهيمنة. ولم تقف الحال عند هذا الحد، فقد أنكرت بعض الجماعات النسوية في الغرب ثنائية الذكر والأنثى ووحدتهما في آن، وشرعت في رد الواقع البيولوجي إلى مبدأ واحد أو عنصر واحد هو الأنثى. لذلك قيل: إذا كان مبدأ وحدانية الأنوثة هو النظرية، فإن المثلية هي التطبيق. والتركيز على الأنوثة وحدها هو استبعاد للإنسانية المركّبة، ونوع من العنصرية الجنسية.
ومن طرائف الحركات النسوية وخيالاتها المبتكرة أنها تصدت لإعادة صوغ المصطلحات اللغوية، فغيّرت كلمة History إلى Herstory وكلمة Women إلى womyn لتفادي كلمة Men في العبارة. لكن التيار الأقل جموحًا راح يهزأ من هذه التسليات ويقول:
You can’t spell Madam without Adam in it, and woman without man, and female without male, and she without he; and we say Amen not A women.
***
في الطور المتقدم للرأسمالية ما عاد الجسد البشري أداة للذة المتبادلة والاستمتاع، بل صار جسد الرجل أداة للإنتاج، وجسد المرأة بدوره أداة لإنتاج الأبناء، أي لإنتاج اليد العاملة. ثم، في عصر العولمة، ضاقت الحدود بين اللذة والمنفعة، وخضع الجسد الأنثوي للتنميط والمشابهة، وجرى نزع السحر عنه، فجميع نساء الأرض يستعملن اليوم العطور نفسها، ومزيلات روائح العرق نفسها، والأزياء والمساحيق نفسها، وحتى النظارات والأحذية نفسها، وهذا هو سيادة مبدأ اللذة الاستهلاكي المهيمن على المجتمعات الرأسمالية والمجتمعات التابعة لها، وهذا ما يظهر في ثنايا كتاب جمانة حداد. وتعتقد الثقافة الرأسمالية الحديثة أن الإسراف في الاستهلاك هو دليل على المنزلة والنجاح والرقي. وبهذا المعنى يغدو امتلاك الأشياء أو استهلاكها ضربًا من ضروب السعادة الفردية. في تلك المجتمعات المشبعة بقيم الاستهلاك يصبح الإنسان والحيوانات والأشياء والممتلكات مجرد أدوات للإشباع. وما إن يتضاءل الإشباع بالتدريج حتى تصبح تلك العناصر الاستهلاكية قابلة للتخلص منها. فالسيارة تُستبدل في كل فترة للحصول على الطراز الأحدث، والهاتف يُستبدل في كل سنة مثلًا، حتى الكلاب تُباع أو تُهدى للحصول على كلاب من أنواع جديدة. فما الضيرُ إذًا في استبدال الشريك كلما تضاءل الإشباع الناجم عن الاشتراك في الحياة اليومية؟
لماذا تسجن جمانة حداد أفكارها الجريئة والراقية في محبس الحركة النسوية؟ لتكن آراؤها ومواقفها طليقة مثلها من دون نظريات وحركات، وهي آراء ومواقف واضحة، ومفهومة دوافعها وروافعها. ومهما يكن الأمر، فإن ثلاثة أنواع من الرجال لا يفهمون المرأة: الشبان والكهول والشيوخ.
عنوان الكتاب: وصايا شهرزاد الأخيرة المؤلف: جمانة حداد